كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
الزَّحْف ورتب المصاف وجرد السَّيْف وَذكر اسْم الله وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها وتحركت هممها وأبلت فِي طَاعَة رَبهَا والذب عَن دينهَا وَجَاءَت بِمَا يعرف من بأسها وبلائها فِي مقاماتها ومواقفها فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى هبت ريح النَّصْر وَظهر أَمر الله وانكشفت جموع النَّصْرَانِيَّة وَقتل الزعيم نونه وَكَانَ هَذَا اللعين زعيم النَّصْرَانِيَّة بالأندلس قد قدمه الفنش على جيوشه وَاسْتَعْملهُ على حروبه وفوض لَهُ فِي جَمِيع أُمُوره وَكَانَ النَّصَارَى قد سعدوا بطائرة وتيمنوا بنقيبته لِأَنَّهُ لم تهزم لَهُ قطّ راية وَكَانَ وبالا على بِلَاد الْإِسْلَام كثير الغارات عَلَيْهَا حَتَّى جمع الله بَينه وَبَين السُّلْطَان يَعْقُوب فأراحه من تَعب الْحَرْب وكد الغارات وألحقه بِأُمِّهِ الهاوية ومنح الْمُسلمين رِقَاب الفرنج واستحر فيهم الْقَتْل حَتَّى بلغت قتلاهم عدد الألوف وجمعوا من رؤوسهم مآذن أذنوا عَلَيْهَا لصلاتي الظّهْر وَالْعصر وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين مَا يناهز الثَّلَاثِينَ أكْرمهم الله تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ وآثرهم بِمَا عِنْده وَنصر الله حزبه وأعز أوليائه وَأظْهر دينه وبدا لِلْعَدو مَا لم يكن يحتسبه بمحاماة هَذِه الْعِصَابَة عَن الْملَّة وقيامها بنصر الْكَلِمَة وَبعث السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله بِرَأْس الزعيم نونه إِلَى ابْن الْأَحْمَر فَيُقَال إِنَّه بَعثه سرا إِلَى قومه بعد أَن طيبه وأكرمه ولَايَة أخلصها لَهُم ومداراة وانحرافا عَن السُّلْطَان يَعْقُوب ظَهرت شَوَاهِد ذَلِك عَلَيْهِ بعد حِين
وَاعْلَم أَن هَذَا الزعيم يُسَمِّيه كثير من المؤرخين دون نونه وَلَفظه دون مَعْنَاهَا فِي لسانهم السَّيِّد أَو الْعَظِيم أَو مَا أشبه ذَلِك فَلِذَا أسقطناها
وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه إِلَى الجزيرة الخضراء منتصف ربيع من السّنة الْمَذْكُورَة فقسم فِي الْمُجَاهدين الْغَنَائِم وَمَا نفلوه من أَمْوَال عدوهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم بعد الاستئثار بالخمس لبيت المَال على مُوجب الْكتاب وَالسّنة ليصرفه فِي مصارفه وَيُقَال كَانَ مبلغ الْغَنَائِم فِي هَذِه الْغُزَاة مائَة ألف من الْبَقر وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألفا من السَّبي وَمن الْأُسَارَى سَبْعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة وَثَلَاثُونَ وَمن الكراع أَرْبَعَة عشر ألفا وسِتمِائَة وَأما الْغنم فاتسعت عَن الْحصْر
حَتَّى لَا يُمكن تحريفها فَيَقُول مثلا والمهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم إِنَّمَا هِيَ فِي الْبَحْر وَأما الْبر فَلَا مهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم فِيهِ أَو نَحْو هَذَا من الْكَلَام فيصعب تحريفه وَقد نَص أهل علم التوثيق على هَذَا وَأَن الموثق يجب عَلَيْهِ أَن يبسط الْكَلَام مَا اسْتَطَاعَ ويجتنب الِاخْتِصَار المجحف وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ بِوَجْه من الْوُجُوه وَالله أعلم
نهوض السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى برابرة آيت ومالو وَالسَّبَب فِي ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله إِلَى جبال آيت ومالو وَكَانَ ذَلِك فِي غَرَض قائده بلقاسم الزموري فَإِنَّهُ كَانَ قد ولاه عَلَيْهِم فَلم يقبلوه فَطلب من السُّلْطَان الْإِعَانَة عَلَيْهِم فأمده بِثَلَاثَة آلَاف فَارس مُضَافَة إِلَى من مَعَه من إخوانه زمور وَبني حكم وَسَار اليهم فَلَمَّا نزل على وَادي أم الرّبيع من نَاحيَة تادلا زحفوا إِلَيْهِ فولى عَنْهُم مُدبرا وَلم يعقب واتصل خبر هزيمته بالسلطان فاغتاظ على آيت ومالوا وَأخذ فِي الاستعداد لغزوهم وبرزت العساكر بِظَاهِر مكناسة وَبعث السُّلْطَان إِلَى أُمَرَاء الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر يستنفرهم فوافاه بمكناسة على الصعب والذلول وَلما تكاملت الْجنُود نَهَضَ إِلَيْهِم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُوَ الْكَاتِب أَبُو الْقَاسِم الصياني بالصَّاد المشممة زايا كَلَفْظِ صِرَاط فِي قِرَاءَة حَمْزَة وَكنت مَعَه فِي هَذِه السفرة وسَاق الحَدِيث عَنْهَا بِأَن قَالَ كنت مَعَ السُّلْطَان وَأَنا يَوْمئِذٍ فِي حيّز الإهمال أتوقع الْمَوْت فِي كل وَقت بِسَبَب مَا كتب إِلَيْهِ فِي شأني الْقَائِد بلقاسم الزموري الْمَذْكُور آنِفا وَأَنِّي أَنا الَّذِي أفسدت عَلَيْهِ قومه وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى محلّة بلقاسم وَنزلت عساكرة فِي بسيط كريكرة أَشَارَ على السُّلْطَان بِأَن يقسم تِلْكَ الجيوش على ثَلَاثَة أَقسَام ثلث مِنْهَا ينزل بتاسماكت من وَرَاء الْعَدو وَثلث
الوصيف الْقَائِد فرجى وَقدم الطَّاهِر بن مَسْعُود فأخرجت فِيهِ عمَارَة وحز رَأسه ثمَّ قدم الْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر فَفعل بِهِ مثل صَاحبه فَيُقَال إِنَّه زهقت نَفسه قبل الْقَتْل لِأَنَّهُ لم يسل مِنْهُ دم وَأما الطَّاهِر بن مَسْعُود فَسَالَ مِنْهُ دم كثير وَأمر سَيِّدي مُحَمَّد ولد السُّلْطَان بمواراته فووري وَأما ابْن الطَّاهِر فَإِنَّهُ رمي على المزبلة ووكل بِهِ الحرس إِلَى أَن أَكلته الْكلاب وَلم يبْق إِلَّا رِجْلَاهُ بالقيد وَكَانَ ذَلِك فِي حُدُود خمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَأما ابْن فَرِحُونَ وَأَصْحَابه فَإِنَّهُم استمروا فِي سجن الجزيرة إِلَى أَن هَلَكُوا
وَاعْلَم أَن هَذِه الْوَقْعَة الهائلة دَالَّة على كَمَال عقل السُّلْطَان ووفور حلمه وفضله حَتَّى أَنه مَا عَامل هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين آذوه أَشد الإذاية إِلَّا بِبَعْض الْبَعْض مِمَّا استوجبوه كَمَا قَالَ وكما رَأَيْت وَعلمت ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يتغمدنا وَالْمُسْلِمين برحمته ويقينا وإياهم مصَارِع السوء وينيلنا الْأَمْن فِي الدُّنْيَا والفوز فِي الْآخِرَة بجنته إِنَّه على ذَلِك قدير وبالإجابة جدير
ظُهُور الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين الْمُخْتَار بالمغرب الْأَوْسَط وَبَعض أخباره
لما رَجَعَ جَيش السُّلْطَان من تلمسان مَعَ الْمولى على بن سُلَيْمَان حَسْبَمَا مر بَقِي أهل تلمسان فوضى وَرجعت الْحَرْب بَين الْحَضَر من أَهلهَا والكرغلية جَذَعَة وهاجت الْفِتَن بَين قبائل الْعَرَب الَّذين هُنَالك وَاخْتَلَطَ الحابل بالنابل وَكَانَ الْفَقِيه المرابط محيي الدّين عبد الْقَادِر المختاري نِسْبَة إِلَى أحد أجداده الْمَشْهُورين بِتِلْكَ النَّاحِيَة نازلا وسط حلَّة الحشم عِنْد المشاشيل مِنْهُم وَكَانَ متظاهرا بِالْخَيرِ وتدريس الْعلم وَاتخذ زَاوِيَة لطلبة الْعلم وقراء الْقُرْآن فاشتهر عِنْد أُولَئِكَ الْقَبَائِل واعتقدوه فَلَمَّا دهم الْعَدو أهل تِلْكَ الْبِلَاد وجاشت فِيمَا بَينهم الْفِتَن اجْتمع الحشم وَبَعض بني عَامر وتفاوضوا فِيمَا نزل بهم فأجمع رَأْيهمْ على بيعَة الشَّيْخ محيي الدّين الْمَذْكُور فَذَهَبُوا إِلَيْهِ
الصفحة 41