كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
إِلَى الأندلس فَبعث إِلَيْهِ فسطاطا رائقا كَانَ صنع لَهُ بمراكش وَثَلَاثِينَ من البغال الفارهة ذكرانا وإناثا وَغير ذَلِك مِمَّا يباهي بِهِ مُلُوك الْمغرب
وَفِي سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة أهْدى إِلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الْقوي التوجيني صَاحب جبل وانشريس أَرْبَعَة من الْجِيَاد انتقاها من خيل الْمغرب كَافَّة وَرَأى أَنَّهَا على قلَّة عَددهَا أحفل هَدِيَّة وَفِي نَفسه أثْنَاء هَذَا كُله من أَمر الْجِهَاد شغل شاغل يتخطى إِلَيْهِ سَائِر أَعماله حَسْبَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
الْجَوَاز الثَّانِي للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد
لما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته الأولى واستنزل الْخَوَارِج وثقف الثغور وهادى الْمُلُوك واختط الْمَدِينَة الْبَيْضَاء لنزوله كَمَا ذكرنَا خرج فاتح سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة إِلَى جِهَة مراكش لسد ثغورها وتثقيف أطرافها وتوغل فِي أَرض السوس وَبعث وزيره فتح الله السدراتي فِي العساكر فجاس خلالها ثمَّ انكفأ رَاجعا وَهُنَاكَ خَاطب السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله قبائل الْمغرب كَافَّة بالنفير إِلَى الْجِهَاد فتثاقلوا عَلَيْهِ فَلم يزل يحرضهم وهم يسوفون إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَسبعين بعْدهَا وَلما رأى تثاقل النَّاس عَلَيْهِ نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح وتلوم بِهِ أَيَّامًا فِي انْتِظَار الْغُزَاة فأبطؤوا عَلَيْهِ فخف فِي خاصته وَتقدم فِي حَاشِيَته حَتَّى انْتهى إِلَى قصر الْمجَاز وَقد تلاحق بِهِ النَّاس من كل جِهَة لما رَأَوْا من عزمه وتصميمه فَأجَاز بهم الْبَحْر واحتل بطريف آخر محرم من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ ارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ إِلَى رندة فوافاه بهَا الرئيسان أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْحسن عَليّ بن أشقيلولة صَاحب مالقة وَأَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن برسم الْجِهَاد مَعَه
ثمَّ ارتحل السُّلْطَان من رندة فاتح ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة حَتَّى انْتهى إِلَى إشبيلية فعرس عَلَيْهَا يَوْم المولد النَّبَوِيّ وَكَانَ بهَا يَوْمئِذٍ ملك الجلالقة أَن أذفونش فَلم يجد بدا من الْخُرُوج إِلَيْهِ بعد أَن خام عَن اللِّقَاء أَولا فبرز فِي جموعه وصفهَا على ضفة الْوَادي الْكَبِير من نَاحيَة السُّلْطَان وَأظْهر من أبهة الْحَرْب مَا قدر عَلَيْهِ فَكَانَت جيوشه كلهَا فِي الدروع السوابغ وَالْبيض اللوامع
لَهُ إِلَّا إخوانه من أهل دكالة وَولى على السراغنة أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالصغير وعَلى أهل تادلا صَالح بن الرضي الورديغي وعَلى أَوْلَاد أبي رزك المزابي الْقَائِد صَاحب الطابع وعَلى أَوْلَاد أبي عَطِيَّة عمر بن أبي سلهام المزابي وَأمر مُحَمَّد بن أَحْمد أَن يقبض من إخوانه الَّذين كَانُوا عمالا على هَذِه الْقَبَائِل مَا احتجبوه من الْأَمْوَال أَيَّام ولايتهم واستصفى مِنْهُم مائَة وَخمسين ألفا
خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله ومبايعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا كَانَت الْفِتْنَة الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وبيعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن السُّلْطَان كتب إِلَيْهِم وَهُوَ بمراكش يَأْمُرهُم أَن يعينوا مِنْهُم ألف كانون ينتقلون بأولادهم إِلَى طنجة يكونُونَ بهَا وَبعث إِلَيْهِم بِالْكتاب مَعَ الْقَائِد الشَّاهِد رَأس الْفِتْنَة وولاه على ذَلِك الْألف فَلَمَّا أَتَاهُم بِكِتَاب السُّلْطَان قَالَ لَهُم لَا يذهب معي إِلَّا الْأَعْيَان وَمن لَهُ دَار وَأَرْض وضيعة وَلَا يذهب معي إِلَّا أمثالي فَلَمَّا سمع اقتراحه أُولَئِكَ الأجلاف ركبُوا رَأْسهمْ فِي سَبِيل الْخلاف واستفزهم الشَّيْطَان حَتَّى صَرَّحُوا بخلع السُّلْطَان جَريا فِي ذَلِك على مَذْهَبهم الْقَدِيم والتفاتا إِلَى فعل سلفهم الذميم فَلَمَّا أنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان بعث إِلَيْهِم ابْنه الْمولى يزِيد وَكَانَ عِنْده بمراكش كي يستصلحهم بِهِ فازداد فسادهم وَعظم عنادهم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح فَلَمَّا ذهبت إِلَى مراكش لقِيت الْمولى يزِيد بالسانية مَوضِع على نَحْو نصف يَوْم مِنْهَا قَالَ فَسَأَلَنِي عَن خبر العبيد فقصصته عَلَيْهِ فسره ذَلِك وجد فِي السّير ففهمت قَصده وَعرفت مَا يؤول إِلَيْهِ أمره فيهم وَزعم أَنه لما قدم على السُّلْطَان لامه فِي
الْمَذْكُورَة وَفِي محرم فاتح سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْوَزير الشهير السَّيِّد الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي بمراكش واستوزر السُّلْطَان بعده الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الحاجي النكنافي مُدَّة يسيرَة ثمَّ أَخّرهُ ورد وزيره الأقدم أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس رحم الله الْجَمِيع وَفِي هَذِه السّنة كَانَ الوباء بالمغرب بالإسهال والقيء وغور الْعَينَيْنِ وبرودة الْأَطْرَاف
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد سُؤال من عِنْد الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين إِلَى عُلَمَاء فاس يَقُول فِيهِ مَا نَصه
الْحَمد لله سادتنا الْأَعْلَام أَئِمَّة الْهدى ومصابيح الظلام فُقَهَاء الحضرة الإدريسية ومرمى المطالب ومحط الرّحال العيسية أطباء أدواء الدّين ومحقين حَقه ومبطلين باطله ومنتجين قضاياه المتخيلة عقيمة وباطلة جوابكم أبقاكم الله فِيمَا عظم بِهِ الْخطب وَاشْتَدَّ بِهِ الكرب بوطن الجزائر الَّذِي صَار لغربال الْكفَّار جزائر وَذَلِكَ أَن الْعَدو الْكَافِر يحاول ملك الْمُسلمين مَعَ استرقاقهم بِالسَّيْفِ وَتارَة بحيل سياسته وَمن الْمُسلمين من يداخلهم ويبايعهم ويجلب الْخَيل إِلَيْهِم وَلَا يَخْلُو من دلالتهم على عورات الْمُسلمين ويطالعهم وَمن أَحيَاء الْعَرَب المجاورين لَهُم من يفعل ذَلِك ويتمالؤون على الْجُحُود وَالْإِنْكَار فَإِذا طلبُوا بتعيينه جعجعوا وَالْحَال أَنهم يعلمُونَ مِنْهُم الْأَعْين والْآثَار فَمَا حكم الله فِي الْفَرِيقَيْنِ فِي أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَهَل لَهُم من عِقَاب أم يتركون على حَالهم وَمَا الحكم فِيمَن يتَخَلَّف عَن المدافعة عَن الْحَرِيم وَالْأَوْلَاد إِذا استنفره نَائِب الإِمَام للدفاع والجلاد فَهَل يعاقبون وَكَيف عقابهم وَلَا يَتَأَتَّى بِغَيْر قِتَالهمْ وَهل تُؤْخَذ أَمْوَالهم وأسلابهم كَيفَ الْعَمَل فِيمَن يمْنَع الزَّكَاة أَو يمْنَع بَعْضهَا من التحقق بعمارة ذمَّته فِي الْحَال فَهَل يصدق مَعَ قلَّة الدّين فِي هَذَا الزَّمَان أم يكون للِاجْتِهَاد فِيهِ مجَال وَمن أَيْن يرْزق الْجَيْش المدافع عَن الْمُسلمين الساد ثغورهم عَن المغيرين وَلَا بَيت مَال وَمَا يجمع من الزَّكَاة لَا يَفِي بشبعهم فضلا