كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
الْأَحْمَر إِلَيْهِ بعد عرضه على أَمِير الْمُسلمين والتماس إِذْنه فِيهِ لما فِيهِ من الْمصلحَة وجنوح أهل الأندلس إِلَيْهِ مُنْذُ المدد الطَّوِيلَة فانعقد السّلم فِي آخر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه وَجعل طَرِيقه على غرناطة احتفاء بالسلطان وَخرج لَهُ عَن الْغَنَائِم كلهَا فاحتوى عَلَيْهَا ابْن الْأَحْمَر وساقها إِلَى غرناطة وَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يَعْقُوب يكون حَظّ بني مرين من هذَيْن الْغُزَاة الْأجر وَالثَّوَاب مثل مَا فعل يُوسُف بن تاشفين رَحمَه الله مَعَ أهل الأندلس يَوْم الزلاقة
وَلما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من هَذِه الْغَزْوَة اعتل الرئيس أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة ثمَّ هلك غرَّة جُمَادَى من السّنة الْمَذْكُورَة فلحق ابْنه مُحَمَّد بالسلطان يَعْقُوب آخر شهر رَمَضَان وَهُوَ متلوم بالجزيرة الخضراء منصرفة من الْغَزْو كَمَا ذَكرْنَاهُ فَنزل لَهُ عَن مالقة وَدعَاهُ إِلَى حوزها مِنْهُ وَقَالَ لَهُ إِن لم تحزها أعطيتهَا للفرنج وَلَا يتملكها ابْن الْأَحْمَر فحازها السُّلْطَان يَعْقُوب مِنْهُ وَعقد عَلَيْهَا لِابْنِهِ أبي زيان منديل بن يَعْقُوب فَسَار إِلَيْهَا وتملكها وَعز ذَلِك على ابْن الْأَحْمَر غَايَة لِأَنَّهُ لما بلغه وَفَاة أبي مُحَمَّد بن أشقيلولة سما أمله إِلَيْهَا وَأَن ابْن أُخْته وَهُوَ مُحَمَّد الْوَافِد على السُّلْطَان يَعْقُوب شيعَة لَهُ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلا فَأَخْطَأَ ظَنّه وَخرج الْأَمر بِخِلَاف مَا كَانَ يرتقب وَلما قضى السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء صَوْمه ونسكه خرج إِلَى مالقة فَدَخلَهَا سادس شَوَّال من السّنة ويرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِي يَوْم مشهود واحتفلوا لَهُ احتفال أَيَّام الزِّينَة سُرُورًا بِمقدم السُّلْطَان واغتباطا بدخولهم فِي دَعوته وانخراطهم فِي سلك رَعيته وَأقَام فيهم إِلَى خَاتم سنته ثمَّ عقد عَلَيْهَا لعمر بن يحيى بن محلي من صنائع دولتهم وَأنزل مَعَه المسالح وَترك عِنْده زيان بن أبي عياد بن عبد الْحق فِي طَائِفَة لنظره من أبطال بني مرين واستوصاه بِمُحَمد بن اشقيلولة وارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ أجَاز مِنْهَا إِلَى الْمغرب فاتح سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة وَقد اهتزت الدُّنْيَا لمقدمه وامتلأت الْقُلُوب سُرُورًا بِمَا هيأه الله من نصر الْمُسلمين بالأندلس وعلو راية الْإِسْلَام على كل راية وعظمت بذلك كُله موجدة ابْن الْأَحْمَر ونشأت الْفِتْنَة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
بعث إِلَيْهِم السُّلْطَان قائدهم سعيد بن العياشي الَّذِي خلعوه أَيَّام الْفِتْنَة وأوصاه أَن يُقيم بدار عَرَبِيّ حَتَّى يقدم عَلَيْهِ عبيد طنجة والعرائش فَانْتهى إِلَيْهَا ووافاه بهَا عبيد طنجة فنزلوا عَلَيْهِ بقضهم وقضيضهم ووصلت الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش فجاؤوا حَتَّى نزلُوا مَعَ إخْوَانهمْ كَمَا رسم السُّلْطَان
ثمَّ إِن السُّلْطَان رَحمَه الله نَهَضَ من رِبَاط الْفَتْح حَتَّى وافى مشرع مسيعيدة من وَادي سبو ثمَّ انْتقل مِنْهُ إِلَى سوق الْأَرْبَعَاء من بِلَاد سُفْيَان ثمَّ تقدم إِلَى قبائل الغرب وَبني حسن أَن يَسِيرُوا إِلَى العبيد ويعسكروا عَلَيْهِم من جَمِيع الْجِهَات فامتثلوا وَلما استداروا حَولهمْ وَأَحَاطُوا بهم إحاطة بَيَاض الْعين بسوادها قدم السُّلْطَان ودعا رُؤَسَاء الْقَبَائِل فَحَضَرُوا عِنْده فَقَالَ لَهُم إِنِّي قد أَعطيتكُم هَؤُلَاءِ العبيد بأولادهم وخيلهم وسلاحهم وكل مَالهم فاقتسموهم الْآن وكل وَاحِد مِنْكُم يَأْخُذ عبدا وَأمة وأولادهما فَالْعَبْد يحرث وَالْأمة تطحن وَالْولد يرْعَى الْمَاشِيَة فحذوهم وتقلدوا سِلَاحهمْ واركبوا خيولهم وَالْبَسُوا كساهم بَارك الله لكم فيهم فَأنْتم عسكري وجندي دونهم فَلَمَّا سَمِعت قبائل الغرب وَبني حسن هَذَا الْكَلَام من السُّلْطَان وَثبُوا على العبيد من غير أَن تكون مِنْهُم وَقْفَة واقتسموهم فِي أسْرع من لحس الْكَلْب أَنفه وتوزعوهم شذر مذر وصيروهم عِبْرَة لمن اعْتبر
وقفل السُّلْطَان رَاجعا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما دخله نفى العبيد الَّذين بهَا إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم وَولى مكانهم غَيرهم وَاسْتمرّ عبيد طنجة والعرائش موزعين فِي الْقَبَائِل أَربع سِنِين ثمَّ عَفا عَنْهُم واستردهم من الْقَبَائِل إِلَى الجندية وأركبهم وكساهم وسلحهم لكنه ميزهم وجعلهم قبائل فِي الْخَلْط وطليق مِنْهُم أنزلهم بقصر كتامة وسُفْيَان وَبَنُو مَالك أنزلهم بمسيعيدة وَبَنُو حسن أنزلهم بسيدي قَاسم والحياينة وَأهل الْجَبَل أنزلهم بتامدرت من أَعمال فاس وَأَقَامُوا هُنَالك عدَّة سِنِين يوجهون حصتهم فِي الْبعُوث ويعسكرون مَعَ السُّلْطَان مَتى احْتَاجَ إِلَيْهِم ثمَّ جمعهم رَحمَه الله بعد ذَلِك ونقلهم إِلَى مراكش وَأَقْبل عَلَيْهِم بالعطاء إِلَى أَن عَادوا أحسن مِمَّا
(إِذا أَنْت أكرمت الْكَرِيم ملكته ... وَإِن أَنْت أكرمت اللَّئِيم تمردا)
(وَوضع الندا فِي مَوضِع السَّيْف بالعلى ... مضربه كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندا)
فَلَمَّا رَأينَا لجاجهم فِي عمالهم وَعدم رجوعهم عَن هواهم وَأَنَّهُمْ لم يعتبروا بجلائهم عَن بِلَادهمْ وَلَا بِمَا أَصَابَهُم من الْفِتْنَة فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَلم يراعوا مَا نهب من زرعهم الْقَائِم والحصيد وَلَا مَا استخرج من مخزونهم الْكثير العتيد رَأينَا قِتَالهمْ شرعا وجهادهم ذبا عَن الدّين ودفعا فاعتمدنا على حول الله وقوته وأمرنا بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِم فِي الْأَخْذ والتضييق وَالْمُبَالغَة فِي النهب وَالتَّحْرِيق وتركهم مَحْصُورين فِي أوعارهم ومقهورين فِي أوكارهم إِذْ رب مطاولة أبلغ من مصاولة فتوالت عَلَيْهِم الغارات وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِم النكبات لَا يَجدونَ إِلَى الرَّاحَة سَبِيلا أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا فَفِي كل يَوْم تثمر العوالي رُؤُوس رُؤَسَائِهِمْ وتتخطف أَيدي المنايا أهل بأسائهم وَكلما رادوهم إقداما وطلبا ازدادوا توغلا فِي الْجبَال وهربا حَتَّى نهكتهم الْحَرْب وضرستهم مُوالَاة الطعْن وَالضَّرْب وَضاع بالحصار الْكسْب وَالْمَال وَلحق الضَّرَر الْأَوْلَاد والعيال فَجعلُوا يرحلون لقبائل جوارهم طَالِبين لحلفهم وجوارهم وَبلغ الْبُؤْس فيهم غَايَته وَأظْهر الله فيهم آيَته وهم فِي خلال هَذَا كل حِين يتشفعون ويتذللون فِي قبُول تَوْبَتهمْ ويتضرعون وَنحن نظهر لَهُم التمنع والإباية لنبني أَمرهم على أساس الْجد ونجازيهم على مَا ارتكبوه من خلف الْوَعْد فَلَمَّا أنجزت القهرية فيهم وعدها وَبَلغت الْعقُوبَة فيهم حَدهَا قابلنا إساءتهم بِالْإِحْسَانِ وراعينا فيهم وَجه الْمَسَاكِين وَالنِّسَاء وَالصبيان فولينا عَلَيْهِم مِنْهُم ثَلَاثَة عُمَّال ووظفنا عَلَيْهِم خمسين ألف مِثْقَال وشرطنا عَلَيْهِم تَقْوِيم مِائَتَيْنِ من الحراك مثل قبائل الطَّاعَة والتزام الصّلاح والخدمة جهد الِاسْتِطَاعَة فَقَامُوا بذلك أحسن قيام وأعطوا المراهين فِي أَدَاء المَال بعد أَيَّام وَكَانَ أَخذهم بعد تَقْدِيم الْأَعْذَار وتكرير الْإِنْذَار وعفونا عَنْهُم عَفْو غلب واقتدار وَرب عِقَاب أنتج حسن طَاعَة وتوبة نصوح تداركت مَا سلف من التَّفْرِيط والإضاعة وَفِي النَّاس من لَا يصلح إِلَّا مَعَ التَّشْدِيد وَرَبك يخلق مَا يَشَاء وَيفْعل مَا يُرِيد
الصفحة 48