كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

الموحدون ابْنه يُوسُف الْمُنْتَصر وَهُوَ يَوْمئِذٍ صبي حدث لَا يحسن التَّدْبِير وشغلته مَعَ ذَلِك أَحْوَال الصِّبَا ولذات الْملك عَن الْقيام بِأَمْر الرّعية فتضافرت هَذِه الْأَسْبَاب على الدولة الموحدية فأضعفتها لحينها وأمرضتها الْمَرَض الَّذِي كَانَ سَببا لحينها وَكَانَ بَنو مرين يَوْمئِذٍ موطنين بِبِلَاد الْقبْلَة من زاب إفريقية إِلَى سجلماسة يتنقلون فِي تِلْكَ القفار والصحارى لَا يدْخلُونَ تَحت حكم سُلْطَان وَلَا تنالهم الدولة بهضيمة وَلَا يؤدون إِلَيْهَا ضريبة كَثِيرَة وَلَا قَليلَة وَلَا يعْرفُونَ تِجَارَة وَلَا حرثا إِنَّمَا شغلهمْ الصَّيْد وطراد الْخَيل والغارات على أَطْرَاف الْبِلَاد
وَكَانَت طَائِفَة مِنْهُم ينتجعون تخوم الْمغرب وتلوله زمَان الرّبيع والصيف فيكتالون من أَطْرَاف الْبِلَاد مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْميرَة ويرعون فِيهَا تِلْكَ الْمدَّة أنعامهم وشاءهم حَتَّى إِذا أقبل فصل الشتَاء اجْتمع نجعهم بأكرسيف ثمَّ شدوا الرحلة إِلَى بِلَادهمْ فَكَانَ ذَلِك دأبهم على مر السنين
فَلَمَّا كَانَت سنة عشر وسِتمِائَة أقبل نجعهم على عَادَته للارتفاق والمبرة حَتَّى إِذا أطلوا على الْمغرب من ثناياه ألفوه قد تبدلت أَحْوَاله وبادت خيله وَرِجَاله وفنيت حماته وأبطاله وعريت من أَهله أوطانه وخف مِنْهَا سكانه وقطانه ووجدوا الْبِلَاد مَعَ ذَلِك طيبَة المنبت خصيبة المرعى غزيرة المَاء وَاسِعَة الأكناف فسيحة الْمزَارِع متوفرة العشب لقلَّة راعيها مخضرة التلول والربى لعدم غاشيها فأقاموا بمكانهم وبعثوا إِلَى إخْوَانهمْ فَأَخْبرُوهُمْ بِحَال الْبِلَاد وَمَا هِيَ عَلَيْهِ من الخصب والأمن وَعدم المحامي والمدافع فاغتنموا الفرصة وَأَقْبلُوا مُسْرِعين بنجعهم وحللهم وانتشروا فِي نواحي الْمغرب وأوجفوا عَلَيْهَا بخيلهم وركابهم واكتسحوا بالغارات والنهب بسيطها ولجأت الرعايا إِلَى حصونها ومعاقلها وَتمّ لَهُم مَا أَرَادوا من الِاسْتِيلَاء على بسيط الْمغرب وسهله وانتجاع مواقع طله ووبله
الْخَبَر عَن رياسة الْأَمِير أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن محيو المريني رَحمَه الله

لما دخل بَنو مرين الْمغرب كَانَ الْأَمِير عَلَيْهِم يَوْمئِذٍ عبد الْحق بن
(أعدت للدّين وَالدُّنْيَا جمالهما ... فأصبحا فِي حلى من حسن مغناكا)
(وزادك الْغَيْث غوثا فِي سحائبه ... فجاد بالقطر قطرا فِيهِ مأواكا)
ثمَّ وَردت على السُّلْطَان تهنئة عَالم إفريقية ومفتيها وأديبها الشَّيْخ أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الْقَادِر الريَاحي بقصيدة يَقُول فِيهَا
(نصر من الرَّحْمَن جلّ لعَبْدِهِ ... أيروم خلق نقض مبرم عقده)
(وعدت بِهِ الأقدار وَهِي نوافذ ... لَا تحسبن الله مخلف وعده)
(وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل نَصره ... فِي الشَّاكِرِينَ لَهُ سوابغ رفده)
(فلتبسم ثغر الهنا مُسْتَبْشِرًا ... فالوقت ينْطق عَن سَعَادَة جده)
(أَن يمض مَوْلَانَا سُلَيْمَان الرِّضَا ... وَعَلِيهِ تبْكي الباكيات لفقده)
(الْعلم وَالتَّقوى وكل فَضِيلَة ... منشورة طويت بِهِ فِي لحده)
(فَلَقَد أَقَامَ لنا أَبَا زيد هدى ... نورا مُبينًا يستضاء برشده)
(لَو لم يكن كفئا لما أوصى بِهِ ... وَبَنوهُ ترفل فِي ملابس مجده)
(سعدت بِهِ الْأَيَّام ثمَّ أَرَادَ أَن ... تبقى السَّعَادَة للورى من بعده)
(أعظم بِهِ نصرا يَدُوم سروره ... للخافقين سرى تضوع رنده)
(أهْدى إِلَى الْأَعْدَاء أقتل غُصَّة ... والأوليا متنعمون بشهده)
(فاستبشروا بِالْيمن من مرضاته ... واستمطروا نيل المنى من وده)
(مَا هُوَ إِلَّا ابْن الرَّسُول وَهل فَتى ... فِي النَّاس يعدل عَن مَكَارِم جده)
(وتناسقت أسلافه كرما كَمَا ... راق النواظر لُؤْلُؤ فِي عقده)
(لَا غرو أَن جمع المحاسن كلهَا ... مِنْهُم فإرث الْجمع حق لفرده)
(لَا يأفك الخراص حَيْثُ يَقُول قد ... ذهب الزَّمَان بعمره وبزيده)
(فبسيف مَا ننسخ يقد أديمه ... حَتَّى وَلَو وفى العيان برده)
(فلكم وَكم من آخر زَمنا لَهُ ... فضل عَظِيم لَا يحاط بسرده)
(يَا أهل فاس والمغارب كلهَا ... والشرق من مصر لغاية حَده)
(يهنيكم هَذَا الزَّمَان فَإِن فِي ... أَيَّامه للدّين مطلع سعده)
(وَالْعلم وَالتَّقوى وكل مُعظم ... عِنْد الشَّرِيعَة فَهُوَ بَالغ قَصده)
(النُّور أوقد مِنْهُم أَترَاهُم ... يرضون إِلَّا باستدامة وقده)

الصفحة 5