كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان النَّاصِر لدين الله يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله تَعَالَى
لما مرض السُّلْطَان يَعْقُوب بقصره من الجزيرة الخضراء مَرضه نساؤه وطيرن بالْخبر الى ولي عَهده الْأَمِير يُوسُف وَكَانَ يَوْمئِذٍ بالمغرب فاتصل بِهِ الْخَبَر وَهُوَ بأحواز فاس فأسرع السّير إِلَى طنجة وَقد مَاتَ أَبوهُ قبل وُصُوله فَأخذ الْبيعَة لَهُ الوزراء والأشياخ وَلما عبر إِلَيْهِم الْبَحْر واحتل بالجزيرة جددوا لَهُ الْبيعَة غرَّة صفر سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وأخذوها لَهُ على الكافة فاستتب ملكه واستقام أمره فَفرق الْأَمْوَال وأجزل الصلات وسرح السجون وَرفع عَن النَّاس الْأَخْذ بِزَكَاة الْفطر ووكلهم فِيهَا إِلَى أمانتهم وكف أَيدي الظلمَة والعمال عَن النَّاس وأزال المكوس وَرفع الأنزال عَن دور الرّعية وَصرف اعتناءه إِلَى إصْلَاح السابلة فأزال أَكثر الرتب والقبالات الَّتِي كَانَت بالمغرب إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا فِي الأقطار الخالية والمفازات المخوفة فخضعت مرين تَحت قهره وَصلح أَمر النَّاس فِي أَيَّامه وَكَانَ أول شَيْء أحدث من أمره أَن بعث إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَضرب لَهُ موعدا للإجتماع بِهِ فبادر إِلَيْهِ ولقيه بِظَاهِر مربالة فِي الْعشْر الأول من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فلقاه السُّلْطَان مبرة وتكريما وتجافى لَهُ عَن جَمِيع الثغور الأندلسية الَّتِي كَانَت فِي مكلة أَبِيه وَنزل لَهُ عَنْهَا مَا عدى الجزيرة ورندة وطريف وتفرقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة والوصلة وَرجع السُّلْطَان يُوسُف إِلَى الجزيرة فَقدم عَلَيْهِ بهَا وَفد الطاغية سانجة مجددين عقد السّلم الَّذِي عقده لَهُم السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله
وَلما تمهد للسُّلْطَان يُوسُف أَمر الأندلس عقد لِأَخِيهِ أبي عَطِيَّة الْعَبَّاس بن يَعْقُوب على الثغور الغربية وأوصاه بضبطها وَعقد للشَّيْخ الْمُجَاهِد أبي الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن يزكاتن على مسلحتها وَجعل إِلَيْهِ أَمر الْحَرْب وأعنة الْخَيل وأمده بِثَلَاثَة آلَاف من بني مرين وَالْعرب ثمَّ عبر الْبَحْر إِلَى الْمغرب يَوْم
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد ابْن عبد الله ومآثره وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله محبا للْعُلَمَاء وَأهل الْخَيْر مقربا لَهُم لَا يغيبون عَن مَجْلِسه فِي أَكثر الْأَوْقَات وَكَانَ يحضر عِنْده جمَاعَة من أَعْلَام الْوَقْت وأئمته مِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة المشارك أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الإِمَام سَيِّدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه الْعَلامَة الْمُحَقق أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد المير السلاوي والفقيه الدراكة أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكَامِل الرَّشِيدِيّ والفقيه السَّيِّد أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن الْمَدْعُو بِأبي خريص هَؤُلَاءِ هم أهل مَجْلِسه الَّذين كَانُوا يسردون لَهُ كتب الحَدِيث ويخوضون فِي مَعَانِيهَا ويؤلفون لَهُ مَا يَسْتَخْرِجهُ مِنْهَا على مُقْتَضى إِشَارَته وَكَانَت لَهُ عناية كَبِيرَة بذلك وجلب من بِلَاد الْمشرق كتبا نفيسة من كتب الحَدِيث لم تكن بالمغرب مثل مُسْند الإِمَام أَحْمد ومسند أبي حنيفَة وَغَيرهمَا وَألف رَحمَه الله فِي الحَدِيث تآليف بإعانة الْفُقَهَاء الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ آنِفا مِنْهَا كتاب مساند الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَهُوَ كتاب نَفِيس فِي مُجَلد ضخم الْتزم فِيهِ أَن يخرج من الْأَحَادِيث مَا اتّفق على رِوَايَته الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَو ثَلَاثَة مِنْهُم أَو اثْنَان فَإِذا انْفَرد بِالْحَدِيثِ إِمَام وَاحِد أَو رَوَاهُ غَيرهم لم يُخرجهُ وَهَذَا المنوال لم يسْبق إِلَيْهِ رَحمَه الله وَكَانَ كثيرا مَا يجلس بعد صَلَاة الْجُمُعَة فِي مَقْصُورَة الْجَامِع بمراكش مَعَ فقهائها وَمن يحضرهُ من عُلَمَاء فاس وَغَيرهمَا للمذاكرة فِي الحَدِيث الشريف وتفهمه وَيحصل لَهُ بذلك النشاط التَّام وَكَانَ كثيرا مَا يتأسف أثْنَاء ذَلِك وَيَقُول وَالله لقد ضيعنا عمرنا فِي البطالة ويتحسر على مَا فَاتَهُ من قِرَاءَة الْعلم أَيَّام الشَّبَاب وَلما فَاتَهُ الِاشْتِغَال بفنون الْعلم فِي حَال الصغر اعْتكف أَولا على سرد كتب التَّارِيخ وأخبار النَّاس وَأَيَّام الْعَرَب ووقائعها إِلَى أَن تملى من ذَلِك وَبلغ فِيهِ الْغَايَة القصوى وَكَاد يحفظ مَا فِي كتاب الأغاني لأبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ من كَلَام الْعَرَب وشعراء الْجَاهِلِيَّة
نحارب هَؤُلَاءِ المفسدين فِي الْمحل الْمَشْهُور بالخميسات فَكَانَت الْمحَال لَا تستوعبهم قتلا ونهبا وتشريدا وَضَربا فَرَأَيْنَا هَذِه الْمرة أَن ننزل عَلَيْهِم أَولا بِعَين العرمة مَحل أفسدهم على الْإِطْلَاق والشمول والاستغراق فخيمنا بهَا أَيَّامًا ثمَّ رحلنا مِنْهَا ونزلنا بمحصى ثمَّ رحلنا مِنْهُ ونزلنا الخميسات وَفِي خلال مقامنا ورحيلنا حل ولدنَا سَيِّدي مُحَمَّد حفظه الله من الرِّبَاط وَنزل بتيفلت مَحل المفسدين ومحط رحال الْبُغَاة الْمُعْتَدِينَ وتقاربت المحلتان فعظمت على المفسدين بذلك النكاية وَبَلغت فيهم الْحَد وَالنِّهَايَة واشتغلت الْمحَال بِأَكْل زُرُوعهمْ وتبديدها واستخراج خباياهم قديمها وجديدها وهم حيارى ينظرُونَ وَإِلَى مَا حل بهم من الْبلَاء يبصرون وَكلما عزموا على المدافعة رجعُوا بالهوان وتخطفت رُؤُوس زعمائهم العقبان فعجزوا إِذا وَخَرجُوا من بِلَادهمْ وأيقنوا أَن الشَّقَاء الْمَكْتُوب عَلَيْهِم حكم بطردهم وبعادهم وَلم يبْق بهَا أنيس إِلَّا اليعافير والا العيس وتحصنوا بأوعارهم الْمَعْلُومَة وصياصيهم المشؤومة فِي جبال تنقبت بالغيوم وكادت تصافح النُّجُوم فَضَاقَ بهم الْحَال وَهلك الْعِيَال وضاعت الْأَمْوَال جوعا وعطشا وَتصرف فيهم الْبلَاء كَيفَ شَاءَ وَمَعَ تحصنهم بِتِلْكَ الأوعار وملتف تِلْكَ الْأَشْجَار كَانَت الجيوش تود أَن تقتحمها عَلَيْهِم وتهب نَفِيس أعمارها فِي أَخذهم وَنحن قد هبنا الرِّفْق الَّذِي يزين وَتَركنَا الْخرق الَّذِي يشين فَأمرنَا بالإمساك عَنْهُم حَتَّى تلفظهم أوعارهم وتحرقهم نارهم فَلَمَّا طَال بهم الأمد وتجرعوا حمى الكمد استجاروا بولدنا سَيِّدي مُحَمَّد حفظه الله فشفع عندنَا فيهم فَقبلنَا شَفَاعَته على شُرُوط قبلوها وَحُقُوق التزموها ومثالب نبذوها وجنحنا إِلَى الْحلم وَالْعَفو اللَّذين أَمر الله بهما وأسندنا أَمرهم إِلَى ولدنَا الْمَذْكُور قطعا لأعذارهم ونهضنا عَنْهُم وَالْحَمْد لله محتسبين وَالله أسَال توفيق الْمُسلمين أَجْمَعِينَ آمين فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة الْحَرَام عَام تِسْعَة وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف
وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْكَوْكَب ذُو الذَّنب أَيْضا وَفِي أوائلها استوزر السُّلْطَان رَحمَه الله الْفَقِيه الْعَلامَة الْأَفْضَل أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله
الصفحة 66