كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

قدوم بني اشقيلولة على السُّلْطَان يُوسُف بسلا وإقطاعه إيَّاهُم قصر كتامة وَالسَّبَب فِي ذَلِك

قد تقدم لنا أَن بني اشقيلولة كَانُوا من وُجُوه الأندلس وَأهل الرياسة بهَا حَتَّى صاهرهم ابْن الْأَحْمَر بابنته وَأُخْته وَقَامُوا مَعَه فِي إِثْبَات قَوَاعِد ملكه ثمَّ انحرفوا عَنهُ إِلَى مُوالَاة بني مرين وَنزل مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي الْحسن مِنْهُم إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب عَن مالقة وَكَانَ عَمه أَبُو إِسْحَاق بن أبي الْحسن صَاحب وَادي آش وأعمالها واتصل ذَلِك فِي بنيه إِلَى أَن بُويِعَ السُّلْطَان يُوسُف فَقَامُوا بدعوته فِيهَا ثمَّ حصلت المصافاة وتأكدت الْمَوَدَّة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر على مَا أسلفناه آنِفا فَطلب ابْن الْأَحْمَر من السُّلْطَان يُوسُف أَن ينزل لَهُ عَن وَاد آش الَّتِي هِيَ لبني اشقيلولة المتمسكين بدعوته كَمَا نزل لَهُ عَن غَيرهَا من الثغور فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك وَكتب إِلَى أبي الْحسن بن إِسْحَاق بن اشقيلولة يَأْمُرهُ بالتخلي لَهُ عَنْهَا فَتَركهَا لَهُ وَعبر هُوَ وحاشيته الْبَحْر إِلَى السُّلْطَان يُوسُف سنة سبع وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة فَلَقِيَهُ بِمَدِينَة سلا فَأعْطَاهُ السُّلْطَان يُوسُف الْقصر الْكَبِير وأعماله طعمه سوغه إِيَّاهَا فَلم تزل ولَايَته متوارثة فِي بنيه حَتَّى انقرضوا آخر دولة بني مرين واستمكن ابْن الْأَحْمَر من وَادي آش وحصونها وَلم يبْق لَهُ بالأندلس مُنَازع من قرَابَته وَالله أعلم
حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَعُثْمَان بن يغمراسن بن زيان صَاحب تلمسان

قد تقدم لنا أَن يغمراسن لما حَضرته الْوَفَاة أوصى ابْنه عُثْمَان أَن لَا يحدث مَعَ بني مرين حَربًا وَلَا يوافقهم فِي زحف مَا اسْتَطَاعَ لاستغلاظ أَمرهم عَلَيْهِ بملكهم الْمغرب الْأَقْصَى وأعماله وَأَن عُثْمَان قد عمل على ذَلِك فأوفد أَخَاهُ مُحَمَّد بن يغمراسن على السُّلْطَان يَعْقُوب بالأندلس وَعقد مَعَه السّلم
إِلَّا من جربه وذاقه وَقد تقدم لنا فِي صدر هَذَا الْكتاب أَن مُلُوك بني عبد الْمُؤمن كَانُوا يحملون النَّاس على الرُّجُوع فِي الْأَحْكَام إِلَى الْكتاب وَالسّنة كل ذَلِك اعتناء بِالْعلمِ الْقَدِيم ومحافظة على أُصُوله وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم
وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله ينْهَى عَن قِرَاءَة كتب التَّوْحِيد المؤسسة على الْقَوَاعِد الكلامية المحررة على مَذْهَب الأشعرية رَضِي الله عَنْهُم وَكَانَ يحض النَّاس على مَذْهَب السّلف من الِاكْتِفَاء بالاعتقاد الْمَأْخُوذ من ظَاهر الْكتاب وَالسّنة بِلَا تَأْوِيل وَكَانَ يَقُول عَن نَفسه حَسْبَمَا صرح بِهِ فِي آخر كِتَابه الْمَوْضُوع فِي الْأَحَادِيث المخرجة من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا يَعْنِي أَنه لَا يرى الْخَوْض فِي علم الْكَلَام على طَريقَة الْمُتَأَخِّرين وَله فِي ذَلِك أَخْبَار ومجريات
قلت وَهُوَ مُصِيب أَيْضا فِي هَذَا فقد ذكر الإِمَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب الْإِحْيَاء إِن علم الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة الدَّوَاء لَا يحْتَاج إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد حُدُوث الْمَرَض فَكَذَلِك علم الْكَلَام لَا يحْتَاج إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد حُدُوث الْبِدْعَة فِي قطر وَقد حرر النَّاس الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي حق الْعَامَّة وَغَيرهم والمبتدئين والمنتهين والأغبياء والأذكياء بِمَا لَيْسَ هَذَا مَحل بَسطه وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله عالي الهمة يحب الْفَخر ويركب سنامه ويخاطب مُلُوك التّرْك مُخَاطبَة الْأَكفاء ويخاطبونه مُخَاطبَة السَّادة ويمدهم بالأموال والهدايا حَتَّى علا صيته عِنْدهم وحسبوه أَكثر مِنْهُم مَالا ورجالا وَكَانَ يُعْطي عَطاء من لَا يخَاف الْفقر وَيَضَع الْأَشْيَاء موَاضعهَا وَيعرف مقادير الرِّجَال وَيُؤَدِّي حُقُوقهم ويتجاوز عَن هفواتهم ويراعي لأهل السوابق سوابقهم ويتفقد أَحْوَال خُدَّامه فِي الصِّحَّة وَالْمَرَض وَلَا يغْفل عَمَّن كَانَ يعرفهُ قبل الْملك وَكَانَ من الشجعان الْمَذْكُورين فِي وقته يُبَاشر الحروب بِنَفسِهِ ويهزم الجيوش بهيبته وَكَانَ يقتني الرِّجَال
وَرفع من قدره وولاه على تِلْكَ النَّاحِيَة فَاشْتَدَّ أمره وطار ذكره وسرت فِيهِ نخوة الرياسة فَأَرَادَ الاستبداد واستحال حَاله إِلَى الْفساد حَتَّى صَار يرد على السُّلْطَان أوامره ثمَّ تدنى قَلِيلا قَلِيلا من أَطْرَاف المملكة وَقَوي حسه بالمغرب فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان رَحمَه الله الْكَتَائِب وَبعث الْبعُوث فقاتلوه بُرْهَة ثمَّ قبض الله بعض قرَابَته فاغتاله واحتز رَأسه وَجَاء بِهِ متقربا إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمراكش فَأمر السُّلْطَان بإعمال المفرحات واستدعى أهل مراكش على طبقاتهم فَأَفَاضَ عَلَيْهِم النعم وغمرهم بِالْإِحْسَانِ غمر الديم
نادرة كَانَ مِمَّن استدعاه السُّلْطَان رَحمَه الله فِي هَذَا الصَّنِيع أهل الْمدَارِس من طلبة الْعلم المتغربين بهَا فجلسوا نَاحيَة من الْقَوْم وَلما خرج الطَّعَام من دَار السُّلْطَان وَفرق على طَبَقَات النَّاس اتّفق تَأْخِيره عَن هَؤُلَاءِ الطّلبَة وَاتفقَ أَيْضا أَن سَأَلَ بعض الْحَاشِيَة بعض الأعوان القائمين على الطَّعَام فَقَالَ لَهُ من الَّذِي بَقِي بِدُونِ إطْعَام فَقَالَ لم يبْق إِلَّا الطّلبَة والطحانون وَكَانَ كَذَلِك فَسَمعهُ أحد الطّلبَة فَقَالَ لأَصْحَابه أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى مَا يَقُول هَذَا فَقَالُوا وَمَا قَالَ قَالَ لَهُم قَالَ إِنَّه لم يبْق إِلَّا أَنْتُم والطحانون فقد شوركتم مَعَهم بالْعَطْف بِالْوَاو وَالله لَا جلستم وَقَامُوا مغضبين فَتَبِعهُمْ بعض حَاشِيَة السُّلْطَان واستعطفهم فَلم يرجِعوا واتصل الْخَبَر بالسلطان فَقَالَ دعهم فسنصلح شَأْنهمْ وَمن الْغَد دعاهم إِلَى بُسْتَان الْوَزير إِبْنِ إِدْرِيس دَاخل بَاب الرب من مراكش وأفاض عَلَيْهِم من النعم مَا غمرهم ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى رَضوا ثمَّ عَمدُوا إِلَى ثمار الْبُسْتَان فاستلبوها عَن آخرهَا وَهَذِه الْقِصَّة تدل على كرم طبع السُّلْطَان رَحمَه الله وسعة أخلاقه وتعظيمه للْعلم وَأَهله وَقد ذكرت بِهَذِهِ النادرة قَول الْقَائِل
(إِذا شوركت فِي أَمر بِدُونِ ... فَلَا يَك مِنْك فِي هَذَا نفور)
(فَفِي الْحَيَوَان يجْتَمع اضطرارا ... أرسطاليس وَالْكَلب الْعَقُور)
وَتَحْقِيق مَسْأَلَة هَذَا الْعَطف مَذْكُور فِي بَاب الْفَصْل والوصل من علم الْمعَانِي وبستان ابْن إِدْرِيس هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ أَبُو عبد الله أكنسوس رَحمَه الله

الصفحة 68