كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

حَرْب بني مرين مَعَ عرب ريَاح ومقتل الْأَمِير عبد الْحق رَحمَه الله

لما انتصر بَنو مرين على أعدائهم الْمُوَحِّدين حصل فِي نفوس بني عَسْكَر بن مُحَمَّد من عشيرتهم نفاسة عَلَيْهِم وَضَاقَتْ صُدُورهمْ من اسْتِقْلَال بني عمهم حمامة بن مُحَمَّد بالرياسة دونهم فخالفوا الْأَمِير عبد الْحق وعشيرته إِلَى مُظَاهرَة الْمُوَحِّدين وأوليائهم من عرب ريَاح وَكَانَت ريَاح يَوْمئِذٍ أَشد قبائل الْمغرب قُوَّة وَأَقْوَاهُمْ شَوْكَة وَأَكْثَرهم خيلا ورجالا لحدوث عَهدهم بالعز والبداوة فأغراهم الموحدون يَوْمئِذٍ ببني مرين لينتصفوا لَهُم مِنْهُم واتفقت كلمتهم عَلَيْهِم وَسمعت بَنو مرين بإقبال الْعَرَب والموحدين وَبني عَسْكَر إِلَيْهِم فَاجْتمعُوا إِلَى أَمِيرهمْ عبد الْحق فَقَالُوا لَهُ مَا ترى فِي أَمر هَؤُلَاءِ الْعَرَب المقبلين إِلَيْنَا فَقَالَ يَا معشر مرين أما مَا دمتم فِي أَمركُم مُجْتَمعين وَفِي آرائكم متفقين وكنتم على حَرْب عَدوكُمْ أعوانا وَفِي ذَات الله إخْوَانًا فَلَا أخْشَى أَن ألْقى بكم جَمِيع أهل الْمغرب وَإِن اخْتلفت أهواؤكم وتشتت آراؤكم ظفر بكم عَدوكُمْ فَقَالُوا لَهُ إِنَّا نجدد لَك الْآن بيعَة على السّمع وَالطَّاعَة وَأَن لَا نَخْتَلِف عَلَيْك وَلَا نفر عَنْك أَو نموت دُونك فانهض بِنَا إِلَيْهِم على بركَة الله فَنَهَضَ الْأَمِير عبد الْحق فِي جموع بني مرين فَكَانَ اللِّقَاء بمقربة من وَادي سبو على أَمْيَال من تافرطاست فَكَانَت بَينهم حَرْب بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا وَقتل فِيهَا الْأَمِير عبد الْحق وكبير أَوْلَاده إِدْرِيس
وَلما رَأَيْت بَنو مرين مَا وَقع بأميرها وَابْنه حميت وغضبت وَأَقْسَمت بأيمانها أَن لَا يدْفن حَتَّى يَأْخُذُوا بثاره فصمموا الْعَزْم لقِتَال ريَاح واستأنفوا الْجد لقراعهم وصبروا صبرا جميلا فنصرهم الله على عدوهم فهزموا رياحا وَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا وشردوهم فِي الشعاب والأودية ورؤوس الهضاب واحتووا على مَا كَانَ فِي محلتهم من السِّلَاح وَالْخَيْل والأثاث وَقَامَ بِأَمْر بني مرين بعد هَلَاك عبد الْحق ابْنه عُثْمَان على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
إِحْدَاث المكس بفاس وبسائر أَمْصَار الْمغرب وَمَا قيل فِي ذَلِك

لما بُويِعَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله وَقدم حَضْرَة فاس رفع إِلَيْهِ أَهلهَا مَا كَانُوا يؤدونه إِلَى وَالِده الْمولى عبد الله مِمَّا كَانَ موظفا على الموازين كميزان سَيِّدي فرج وميزان قاعة السّمن وميزان قاعة الزَّيْت وَغير ذَلِك وَقدره ثَلَاثمِائَة مِثْقَال فِي كل شهر يجب فِيهَا لكل سنة ثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال وسِتمِائَة مِثْقَال
فَلَمَّا حضر فُقَهَاء فاس عِنْد السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد كَلمهمْ فِي شَأْنهَا حَتَّى يكون الْأَمر فِيهَا مُسْندًا إِلَى فَتْوَى الْفُقَهَاء فَقَالُوا إِذا لم يكن للسُّلْطَان مَال جَازَ لَهُ أَن يقبض من الرّعية مَا يستخدم بِهِ الْجند فَأَمرهمْ أَن يكتبوا لَهُ فِي ذَلِك فَكَتَبُوا لَهُ تأليفا اعْتَمدهُ السُّلْطَان ووظف على الْأَبْوَاب والغلات والسلع وَكَانَ مِمَّن كتب لَهُ فِي ذَلِك الْعَلامَة الشَّيْخ التاودي ابْن سَوْدَة والعلامة الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وَالْإِمَام أَبُو حَفْص عمر الفاسي والفقيه الشريف أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن المنجرة والفقيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق الطرابلسي والفقيه القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر أَبُو خريص وَغَيرهم فاعتمد السُّلْطَان على فتواهم ووظف مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا
وَاعْلَم أَن أَمر المكس مِمَّا عَمت بِهِ الْبلوى فِي سَائِر الأقطار والدول مُنْذُ الْأَعْصَار المتطاولة والسنين الأول فَلَا بَأْس أَن نذْكر مَا حَرَّره الْعلمَاء فِي ذَلِك فَنَقُول قد تكلم على ذَلِك الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي كِتَابه شِفَاء الغليل بِمَا نَصه فَإِن قَالَ قَائِل توظيف الْخراج على الأَرْض وَوُجُوب الارتفاقات مصلحَة ظَاهِرَة لَا تنتظم أُمُور الْوُلَاة فِي رِعَايَة الْجند والاستظهار بكثرتهم وَتَحْصِيل شَوْكَة الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ وَلذَلِك لم يلف عصر خَالِيا عَنهُ والملوك على تفَاوت سيرهم وَاخْتِلَاف أَخْلَاقهم تطابقوا عَلَيْهِ وَلم يستغنوا عَنهُ فَلَا تنتظم مصلحَة الدّين وَالدُّنْيَا إِلَّا بِإِمَام مُطَاع ووال
إِلَى أَن بُويِعَ الْمولى عبد الرَّحْمَن وَكَانَ ابْن الْغَازِي من أَصْحَاب الشَّيْخ الْمَذْكُور وَمِمَّنْ لَهُ فِيهِ اعْتِقَاد كَبِير فوفد عَلَيْهِ أَوْلَاد الشَّيْخ ونزلوا عَلَيْهِ لكَي يسْعَى فِي تَسْرِيح والدهم وألحوا عَلَيْهِ فَلم يجد بدا من إِظْهَار الطَّاعَة للسُّلْطَان وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَة فوفد على السُّلْطَان فِي جمع من وُجُوه قومه بهديتهم وبيعتهم فَلَمَّا رأى بَاقِي البربر الَّذين حالفوه من آيت أدراسن وجروان أَنه قدم على السُّلْطَان ظهر لَهُم خيانته فنبذوا ذَلِك الْعَهْد وسارعوا إِلَى بيعَة السُّلْطَان وخدمته بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فَقدم عَلَيْهِ الْحسن بن حمو واعزيز كَبِير آيت أدراسن فِي وُجُوه قومه وَأدّى الطَّاعَة وَدخل فِي حزب الْجَمَاعَة وَعَلِيهِ وعَلى ابْن الْغَازِي كَانَ يَدُور أَمر البربر فِي ذَلِك الْوَقْت فخذل الله فِيمَا بَينهم وَجمع كلمتهم على السُّلْطَان من غير ضرب وَلَا طعن وَلَا إيجَاف بخيل وَلَا رجل فقابلهم السُّلْطَان بغاية الْإِحْسَان لَا سِيمَا ابْن الْغَازِي فَإِنَّهُ إستخلصه وَجعله عُمْدَة رَأْيه وعيبة سيره حَتَّى كَانَ لَا يقطع أمرا دونه بعد أَن سرح لَهُ الشَّيْخ أَبَا عبد الله الدرقاوي رَحمَه الله
ثمَّ إِن السُّلْطَان زوج ابْن الْغَازِي بِإِحْدَى حظايا عَمه السُّلْطَان المرحوم وَهِي ابْنة الْقَائِد عمر بن أبي سِتَّة فعلا قدر ابْن الْغَازِي فِي الدولة بذلك وَاطْمَأَنَّ إِلَى السُّلْطَان بعد أَن كَانَ يسايره على أوفاز وَذهب مَعَه إِلَى مراكش مرَّتَيْنِ حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن لتفقد أَحْوَال الرّعية ووصوله إِلَى رِبَاط الْفَتْح

لما فرغ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله من أَمر الْوُفُود والتهاني بِحَضْرَة فاس الْتفت إِلَى النّظر فِي أَحْوَال الرّعية وتثقيف أَطْرَاف المملكة فولى على فاس وصيفه أَبَا جُمُعَة بن سَالم الَّذِي كَانَ بوابا على الدَّار الْكُبْرَى بفاس الْجَدِيد ثمَّ لما عزم على السّفر عَزله وَولى مَكَانَهُ ابْن عَمه سَيِّدي

الصفحة 7