كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر واستيلاء الطاغية على طريف بمظاهرة ابْن الْأَحْمَر لَهُ عَلَيْهَا

لما قفل السُّلْطَان يُوسُف من الأندلس وَقد أبلغ فِي نكاية الْعَدو كَمَا قُلْنَا عظم على الطاغية أمره وثقلت عَلَيْهِ وطأته فشرع فِي إِعْمَال الْحِيلَة فِي الْإِفْسَاد بَينه وَبَين ابْن الْأَحْمَر وَكَانَ ابْن الْأَحْمَر يتخوف من السُّلْطَان يُوسُف أَن يغلبه على بِلَاده فخلص مَعَ الطاغية نجيا وتفاوضا فِي أَمر السُّلْطَان يُوسُف وَأَن تمكنه من الْإِجَازَة إِلَيْهِم إِنَّمَا هُوَ لقرب مَسَافَة بَحر الزقاق وانتظام ثغور الْمُسلمين حفافيه وَتصرف شوانيهم وسفنهم فِيهِ مَتى أَرَادوا فضلا عَن الأساطيل الجهادية وَأَن أم تِلْكَ الثغور هِيَ طريف وَأَنَّهُمْ إِذا استمكنوا مِنْهَا منعُوا السُّلْطَان من العبور وَكَانَت عينا لَهُم على الزقاق وَكَانَ أسطولهم بمرفئها رصدا لأساطيل صَاحب الْمغرب الخائضة لجة ذَلِك الْبَحْر فاعتزم الطاغية على منازلة طريف وَبهَا يَوْمئِذٍ مسلحة بني مرين وتكفل لَهُ ابْن الْأَحْمَر بمظاهرته على ذَلِك وَالْتزم لَهُ بالمدد والميرة للعسكر أَيَّام منازلتها على أَن تكون لَهُ إِن خلصت للطاغية وتعاهدوا على ذَلِك وأناخ الطاغية بعساكر النَّصْرَانِيَّة على طريف وألح عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ وَنصب الْآلَات من المجانيق والعرادات وأحاط بهَا برا وبحرا وَانْقطع المدد والميرة عَن أَهلهَا وحالت أساطيل الْعَدو بَينهم وَبَين صريخ السُّلْطَان واضطرب ابْن الْأَحْمَر مُعَسْكَره بمالقة قَرِيبا من عَسْكَر الطاغية وسرب إِلَيْهِ المدد من الرِّجَال وَالسِّلَاح والميرة وأصناف الأقوات وَبعث عسكرا لمنازلة حصن إسطبونة فتغلب عَلَيْهِ بعد مُدَّة من الْحصار واتصلت هَذِه الْحَال أَرْبَعَة أشهر حَتَّى أصَاب أهل طريف الْجهد ونال مِنْهُم الْحصار فراسلوا الطاغية فِي الصُّلْح وَالنُّزُول عَن الْبَلَد فَصَالحهُمْ واستنزلهم وتملكها آخر يَوْم من شَوَّال سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة ووفى لَهُم بِمَا عاهدهم عَلَيْهِ واستشرف ابْن الْأَحْمَر إِلَى تجافي الطاغية لَهُ عَنْهَا حَسْبَمَا تعاهدا عَلَيْهِ فَأَعْرض عَن ذَلِك واستأثر بهَا بعد أَن كَانَ نزل لَهُ عَن سِتَّة من الْحُصُون عوضا عَنْهَا فَخرج من يَده الْجَمِيع وَلم
مسالمته أَجنَاس النَّصَارَى كلهم إِلَّا المسكوب فَإِنَّهُ لم يسالمه لمحاربته للسُّلْطَان العثماني وَلَقَد وَجه رسله وهديته إِلَى طنجة فَردهَا السُّلْطَان رَحمَه الله وأبى من مسالمته ووظف على الْأَجْنَاس الْوَظَائِف فالتزموها وَكَانُوا يؤدونها كل سنة وَاسْتمرّ ذَلِك من بعده إِلَى أَن انْقَطع فِي هَذِه السنين الْمُتَأَخِّرَة وَكَانُوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ وَمهما كتب إِلَى طاغية فِي أَمر سارع إِلَيْهِ وَلَو كَانَ محرما فِي دينه ويحتال فِي قَضَاء الْأَغْرَاض مِنْهُم بِكُل وَجه أَحبُّوا أم كَرهُوا وَكَانَ أعظم طواغيتهم طاغية النجليز وطاغية الفرنسيس فَكَانَا يأنفون من أَدَاء الضريبة عَلَانيَة مثل غَيرهم من الْأَجْنَاس فَكَانَ رَحمَه الله يستخرجها مِنْهُم وَأكْثر مِنْهَا بِوَجْه لطيف وَكَانَ لَهُ عدَّة أَوْلَاد أكبرهم أَبُو الْحسن عَليّ والمأمون وَهِشَام وَعبد السَّلَام هَؤُلَاءِ لربة الدَّار المولاة فَاطِمَة بنت عَمه سُلَيْمَان بن إِسْمَاعِيل ثمَّ عبد الرَّحْمَن أمه حره هوارية من هوارة السوس ثمَّ يزِيد ومسلمة أمهما علجة من سبي الإصبنيول ثمَّ الْحسن وَعمر أمهما حرَّة من الأحلاف ثمَّ عبد الْوَاحِد أمه حرَّة من أهل رِبَاط الْفَتْح ثمَّ سُلَيْمَان وَالطّيب ومُوسَى لحرة من الأحلاف أَيْضا ثمَّ الْحسن وَعبد الْقَادِر لحرة من الأحلاف أَيْضا ثمَّ عبد الله لحرة من عرب بني حسن ثمَّ إِبْرَاهِيم لعلجة رُومِية
وَمِمَّا مدح بِهِ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من الشّعْر أرجوزة الأديب البليغ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الونان الْمَعْرُوفَة بالشمقمقبية الَّتِي يَقُول فِي مطْلعهَا
(مهلا على رسلك حادي الأينق ... وَلَا تكلفها بِمَا لم تطق)
وَهَذِه الأرجوزة مَشْهُورَة بَين النَّاس وَهِي من الشّعْر الْفَائِق وَالنّظم البديع الرَّائِق أبان منشئها عَن بَاعَ كَبِير وإطلاع غزير على أَخْبَار الْعَرَب وأيامها وَحكمهَا وأمثالها بِحَيْثُ أَن من حفظهَا وَعرف مقاصدها أغنته عَن غَيرهَا من كتب الْأَدَب وَقد كنت فِي أَيَّام التعاطي اعتنيت بتصحيح ألفاظها والتتبع لأخبارها وأمثالها والتنقير عَن تلميحاتها وتلويحاتها حَتَّى فضضت ختامها واستوعبت مبدأها وتمامها ثمَّ شرعت فِي كِتَابَة شرح عَلَيْهَا يُحِيط بمعانيها
وَفِي هَذِه السّنة انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان وَبَين النجليز وَهِي قِسْمَانِ قسم فِي أُمُور التِّجَارَة وَبَيَان الصاكة والأعشار وَأَن لَا تُعْطى من أَعْيَان السّلع إِلَّا إِذا أَرَادَ التَّاجِر ذَلِك عَن طيب نَفسه وَهِي خَمْسَة عشر شرطا وَقسم فِي أُمُور الْهُدْنَة بشمول الْأَمْن والاحترام لرعيتي الْجَانِبَيْنِ فِي أَي مَوضِع كَانُوا وَهِي ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ شرطا وَكَانَ الْمُبَاشر لعقدها أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْخَطِيب التطاوني بطنجة
بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن أَوْلَاده إِلَى الْحجاز وَمَا اتّفق لَهُم فِي ذَلِك

وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعث السُّلْطَان رَحمَه الله أَوْلَاده إِلَى الْحجاز بِقصد أَدَاء فَرِيضَة الْحَج وهم الْمولى عَليّ وَالْمولى إِبْرَاهِيم وَالْمولى عبد الله وَالْمولى جَعْفَر وَابْن عمهم الْمولى أَبُو بكر بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن عبد الله وَبَالغ السُّلْطَان رَحمَه الله فِي حسن تجهيزهم بِمَا لم يتَقَدَّم مثله لإخوتهم الَّذين حجُّوا قبلهم لَا من الْأَمْوَال وَلَا من الرِّجَال وَلَا من الأدوات والمراكب الفارهة والمرافق العديدة وَبعث مَعَهم من الْأَمْوَال شَيْئا كثيرا لأشراف الْحَرَمَيْنِ ولخواص مُعينين من الْفُقَهَاء والمجاورين وَوجه أكَابِر التُّجَّار والأمناء العارفين بعوائد الْبِلَاد والأقاليم والأمم مثل الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج أَحْمد الرزيني التطاوني والحاج مُحَمَّد بن جنان البارودي التلمساني وَبعث مَعَهم قَاضِي مكناسة الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب بن سَوْدَة المري الفاسي وأخاه الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَحْمد بن سَوْدَة فِي جملَة من الْفُقَهَاء يقرؤون عَلَيْهِم
أَخْبرنِي الْحَاج عبد الْكَرِيم بن الْحَاج أَحْمد الرزيني وَهُوَ أَخُو الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور آنِفا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله لما عزم على بعث أَوْلَاده إِلَى الْحجاز استدعى الْأمين الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور فَدخل عَلَيْهِ

الصفحة 71