كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

بمكانه من حِصَار تازوطا كَمَا قدمنَا فأبرموا العقد وأحكموا الصُّلْح وَانْصَرفُوا إِلَى ابْن الْأَحْمَر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة بإسعاف غَرَضه من المؤاخاة واتصال الْيَد فَوَقع ذَلِك مِنْهُ أجمل موقع وطار سُرُورًا من أعواده وَأجْمع الرحلة إِلَى السُّلْطَان لإحكام العقد والاستبلاغ فِي الْعذر عَن وَاقعَة طريف وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي نَصره بِلَاد الأندلس وإغاثة الْمُسلمين الَّذين بهَا فتهيأ لذَلِك وَعبر الْبَحْر فِي ذِي الْقعدَة من سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة واحتل بجبل بيونش من نَاحيَة سبتة ثمَّ ارتحل إِلَى طنجة فَلَقِيَهُ بهَا الأميران أَبُو عَامر عبد الله وَأَبُو عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب ابْنا السُّلْطَان يُوسُف وَكَانَ أَبُو عَامر لَا زَالَ يَوْمئِذٍ من أَبِيه بِعَين الرِّضَا
وَلما علم السُّلْطَان يُوسُف بقدومه خرج من فاس للقائه وبرور مقدمه فوافاه بطنجة فَقدم ابْن الْأَحْمَر بَين يَدي نَجوَاهُ هَدِيَّة أتحف بهَا السُّلْطَان يُوسُف كَانَ من أحْسنهَا موقعا لَدَيْهِ الْمُصحف الْكَبِير الَّذِي يُقَال إِنَّه مصحف أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ كَانَ بَنو أُميَّة يتوارثونه بقرطبة ثمَّ خلص إِلَى ابْن الْأَحْمَر فأتحف بِهِ السُّلْطَان يُوسُف فِي هَذِه الْمرة فَقبل السُّلْطَان ذَلِك وكافأه بأضعافه وَبَالغ فِي تكرمته وأسعفه بِجَمِيعِ مطالبه وَأَرَادَ ابْن الْأَحْمَر أَن يبسط الْعذر عَن شَأْن طريف فتجافى السُّلْطَان يُوسُف عَن سَماع ذَلِك وأضرب عَن ذكره صفحا وبر وأحفى وَوصل وأجزل وَنزل لِابْنِ الْأَحْمَر عَن الجزيرة ورندة والغربية وَعشْرين حصنا من ثغور الأندلس كَانَت قبل فِي ملكته وملكة أَبِيه وَعَاد ابْن الْأَحْمَر إِلَى أندلسه آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة محبوا محبورا وعبرت مَعَه عَسَاكِر السُّلْطَان يُوسُف لحصار طريف ومنازلته وَعقد على حربها لوزيره الشهير الذّكر عمر بن السُّعُود بن خرباش الحشمي فنازلها مُدَّة فامتنعت عَلَيْهِ وَأَفْرج عَنْهَا
وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين بعْدهَا فرغ السُّلْطَان يُوسُف من بِنَاء جَامع تازا
قائدهم مُحَمَّد بن مُحَمَّد واعزيز فَأدى دِيَته من عِنْده وعفوا وَكتب عَلَيْهِم سجلا بذلك وسكنت الهيعة فاتفق أَن وَجه السُّلْطَان قائده الْعَبَّاس إِلَى مكناسة لقتل أنَاس كَانُوا بسجن مكناسة فَلَمَّا سمع بِهِ الْمولى عبد الرَّحْمَن ظن أَنه قدم فِي شَأْن المطيري الْمَقْتُول وَأَن خَبره قد بلغ السُّلْطَان ففر من مكناسة لَيْلًا إِلَى وَجدّة ثمَّ إِلَى تلمسان واتصل خبر فراره بالسلطان فَسَأَلَ عَن السَّبَب فَأخْبرهُ الْقَائِد الْعَبَّاس بالواقع فَبعث إِلَيْهِ الْأمان فَلم يَثِق ثمَّ سَار إِلَى تلمسان إِلَى سجلماسة فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان من يُؤمنهُ وَيَأْتِي بِهِ إِلَيْهِ فَلم يَثِق وفر إِلَى السوس فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان أَمَانًا إِلَى السوس ففر إِلَى الْقبْلَة وَأقَام يتَرَدَّد فِي قبائلها إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان رَحمَه الله فجَاء إِلَى تارودانت فَأَقَامَ بهَا وَطلب الْأَمر فَلم يتم لَهُ أَمر وَمَات رَحمَه الله وَأما الْمولى يزِيد فَإِنَّهُ أَقَامَ بفاس إِلَى أَن استدعاه وَالِده للقدوم عَلَيْهِ بمراكش فَقدم عَلَيْهِ
ثمَّ اتّفق قيام العبيد على السُّلْطَان بِسَبَب الإدالة الَّتِي أَمرهم بتوجيهها إِلَى طنجة حَسْبَمَا مر فَبعث الْمولى يزِيد لإصلاحهم وردهم عَن غيهم فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم استفزوه بقَوْلهمْ وحركوا مِنْهُ مَا كَانَ سَاكِنا وَاسْتَخْرَجُوا مَا كَانَ كامنا فَبَايعُوهُ وخطبوا بِهِ حَسْبَمَا مر الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى وانحرف قدور بن الْخضر بالودايا عَنهُ وَلما فتح الْمولى يزِيد بَيت المَال وَأعْطى العبيد بعث إِلَى الودايا بعطائهم يستهويهم بِهِ وَكَانَ شَيْئا كثيرا فَردُّوهُ عَلَيْهِ وانضم مُحَمَّد واعزيز فِي بربره إِلَى الودايا فقصدهم الْمولى يزِيد والتقوا بالمشتهى من مكناسة فهزموه وَقتل من العبيد مَا ينيف على الْخَمْسمِائَةِ ثمَّ قدم السُّلْطَان فِي العساكر وجموع الْقَبَائِل ففر الْمولى يزِيد إِلَى زرهون فَتَبِعَهُ السُّلْطَان وزار الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فشفع لَهُ الْأَشْرَاف الأدارسة فِيهِ فَقبل شفاعتهم وَعَفا عَنهُ حَسْبَمَا مر ثمَّ بعد هَذَا بَعثه إِلَى الْمشرق وَصدر مِنْهُ بِمَكَّة فِي حق شيخ الركب مَا صدر فَكَانَت تِلْكَ الفعلة هِيَ الْمُخَالفَة وَبهَا تَبرأ السُّلْطَان مِنْهُ ثمَّ قفل من الْمشرق سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَألف والتجأ إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش إِلَى أَن توفّي وَالِده حَسْبَمَا قَصَصنَا عَلَيْك من قبل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
والديباج والنفائس الغريبة ورتب لَهُم الرَّوَاتِب الْعَالِيَة من أَنْوَاع الْأَطْعِمَة والأشربة الفاخرة الَّتِي تناسب أقدارهم وأباح لَهُم الدُّخُول إِلَى كل مَحل أَرَادوا رُؤْيَته من الْأَبْنِيَة والمصانع والرياض والبساتين الملوكية الَّتِي يتعجب من رؤيتها وتنقل أَخْبَارهَا فشاهدوا من ذَلِك مَا لَا يكْشف حَقِيقَته اللِّسَان وَمَا لَا يظنّ أَن تناله قدرَة الْإِنْسَان ثمَّ ركبُوا فِي بَحر القلزم إِلَى جدة فقضوا مناسكهم وشفوا غلتهم من مُبَاشرَة شَعَائِر الشَّرِيعَة المطهرة من الطّواف وَالسَّعْي وَالْوُقُوف وزيارة الْمشَاهد الْمُبَارَكَة وتوجهوا إِلَى أعظم الْمَقَاصِد وأسناها الَّتِي هِيَ لنفوس الْمُؤمنِينَ غَايَة منأها زِيَارَة شَفِيع الْأُمَم فِي الْموقف الْأَعْظَم وَكَانُوا صادفوا بِمَكَّة وخما وَفَسَاد هَوَاء مَاتَ مِنْهُ كثير من الْحجَّاج الأفاقين فَمَاتَ من أَصْحَابهم جملَة وَمَات من أَوْلَاد السُّلْطَان الْمولى إِبْرَاهِيم وَالْمولى جَعْفَر الأول بِمَكَّة وَالثَّانِي بِالْمَدِينَةِ وَسلم الله الْبَاقِي وأكرمه وَأَعْلَى مقَامه وعظمه وَجمع لَهُ بَين شرف الْحَيَاة وثواب احتساب مصيبته لمن مَاتَ وَلما فازوا بزيارة سيد الْأَرْضين وَالسَّمَوَات ووافقتهم السَّعَادَة فِي ذَلِك الْمقَام الَّذِي تتضاءل دونه جَمِيع المقامات وأدركوا مَا أَملوهُ من لثم تُرَاب أشرف الْبِقَاع وَأكْرم الْحجر وانفجر عَلَيْهِم من كرم الله مَا انفجر ونال كل وَاحِد مَا كَانَ يؤمله ويرجوه فَخَرجُوا من الْمَدِينَة رَاجِعين بِكُل خير وغسلوا بالدموع مَا كَانُوا عفروه فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن من الْوُجُوه وَلَكِن نالتهم مشقة فادحة من عتاة الْأَعْرَاب فِي الْمسَافَة الَّتِي بَين الْمَدِينَة وينبع لأَنهم انفردوا عَن الركب عِنْد الرُّجُوع وَلَوْلَا لطف الله لاستؤصلوا عَن آخِرهم وَلَقَد كَانَت نجاتهم من تِلْكَ الشدَّة من أعجب العجاب وَفِي خلوصهم مِنْهَا عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب فَإِنَّهُم كمن بعث بعد مماته وإقباره وَانْقِطَاع أنفاسه وأخباره وَالْحَمْد لله الَّذِي لَا تخفر ذمَّته وَلَا تنتهك حرمته فَلَمَّا بلغُوا يَنْبع وجدوا المراكب الَّتِي تحملهم فِي انتظارهم فَرَكبُوا قافلين ورياح السَّلامَة تسوقهم وأرباح التِّجَارَة والسعادة قد تكفل بهَا سوقهم فَلَمَّا وردوا حَضْرَة مراكش تَحت ظلال السَّلامَة وَقد نشر عَلَيْهِم الْقبُول بنوده وأعلامه باتوا بقنطرة تانسيفت وَفِي الْغَد ركبت الْخُيُول والعساكر السُّلْطَانِيَّة لتلقيهم وَخرج أهل

الصفحة 75