كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

الْحصار الطَّوِيل وَمَا تخَلّل ذَلِك من الْأَحْدَاث على تلمسان

تقدم لنا أَن السُّلْطَان يُوسُف لما رَجَعَ من محاصرة تلمسان فاتح سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة مر فِي طَرِيقه بوجدة فَأنْزل بهَا الحامية من بني عَسْكَر إِلَى نظر أَخِيه الْأَمِير أبي بكر وَأمره بشن الغارات على أَعمال بني زيان فامتثل الْأَمِير أَبُو بكر أمره وألح على النواحي بالغارات وإفساد السابلة فَضَاقَ أهل ندرومة بذلك ذرعا وأوفدوا وَفْدًا مِنْهُم على الْأَمِير أبي بكر يسألونه الْأمان لَهُم وَلمن وَرَاءَهُمْ من قَومهمْ على أَن يمكنوه من قياد بلدهم ويدينوا بِطَاعَة السُّلْطَان يُوسُف فبذل لَهُم من ذَلِك مَا ارضاهم ونهض الى الْبَلَد فدخله بعسكره وتبعهم على ذَلِك أهل تاونت فأوفد الْأَمِير أَبُو بكر جمَاعَة من أهل البلدين على أَخِيه السُّلْطَان يُوسُف فقدموا عَلَيْهِ منتصف رَجَب من سنة ثَمَان وَتِسْعين الْمَذْكُورَة فادوا طاعتهم فقبلها وَرَغبُوا إِلَيْهِ فِي الْحَرَكَة إِلَى بِلَادهمْ ليريحهم من ملكة عدوه وعدوهم عُثْمَان بن يغمراسن ووصفوا لَهُ من عسفه وجورة وَضَعفه عَن الحماية مَا أكد عزمه على النهوض فَنَهَضَ لحينه من فاس فِي رَجَب الْمَذْكُور بعد أَن اسْتكْمل حشده ونادى فِي قومه وَعرض عسكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عللهم وَسَار فِي التعبية حَتَّى نزل بِسَاحَة تلمسان ثَانِي شعْبَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة فَأَنَاخَ عَلَيْهَا بككله وربض قبالتها على ترائبه وَأنزل محلته بفنائها وأحاط بِجَمِيعِ جهاتها وتحصن يغمراسن وَقَومه بالجدران وعولوا على الْحصار
وَلما رأى السُّلْطَان يُوسُف ذَلِك أدَار سورا عَظِيما جعله سياجا على تلمسان وَمَا اتَّصل بهَا من الْعمرَان وصيرها فِي وَسطه ثمَّ أرْدف ذَلِك السُّور من وَرَائه بحفير بعيد المهوى وَفتح فِيهِ مدَاخِل لحربها ورتب على ابواب تِلْكَ المداخل مسالح تحرسه وأوعد بالعقاب من يخْتَلف إِلَى تلمسان بِرِفْق أَو يتسلل إِلَيْهَا بقوت وَأخذ بمخنقها من بَين يَديهَا وَمن خلفهَا حَتَّى لم يخلص
الْهمام المرحوم بِاللَّه سَيِّدي مُحَمَّد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ سيدنَا ومولانا عبد الله ابْن السُّلْطَان الْجَلِيل أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل ابْن موالينا السَّادة الْأَشْرَاف ذَوي الْفضل وَالْكَرم والإنصاف قدس الله أَرْوَاحهم فِي أَعلَى الْجنان ومنحهم بفضله الرِّضَا والرضوان أيد الله بِبَقَائِهِ الدّين وطوق بِسَيْفِهِ الْمُلْحِدِينَ وَكتب تَحت لوائه الْمُعْتَدِينَ وَكتب لَهُ النَّصْر إِلَى يَوْم الدّين وأعاذ بِهِ الأَرْض من لايدين بدين وَأعَاد بعدله أَيَّام آبَائِهِ الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وأسكن فِي الْقُلُوب سكينته ووقاره وَمكن لَهُ فِي الْوُجُود وَجمع لَهُ أقطاره هُوَ وَالله مِمَّن فِيهِ اسْتِحْقَاق مِيرَاث آبَائِهِ الْأَعْلَام وتراث أجداده الْكِرَام الْمجمع عَلَيْهِ أَنه فِي هَذِه الْأَيَّام فَرد هُوَ الأنان وَوَاحِد وَهَكَذَا فِي الْوُجُود الإِمَام الراقي فِي صبح سَمَاء هَذِه الذرْوَة المنيفة الْبَاقِي بعد الْأَئِمَّة الماضين نعم الإِمَام وَنعم الْخَلِيفَة سلالة الأخيار وخلاصة أَبنَاء النَّبِي الْمُخْتَار أسمى الله إيالته الشَّرِيفَة وأنار البسيطة بأنوار مَمْلَكَته الشامخة المنيفة انْعَقَد الْإِجْمَاع من أهل هَذِه الحضرة المراكشية حاطها الله وَمَا حولهَا من أهل السوس وكافة الرحامنة وَغَيرهم من قبائل عديدة حَسْبَمَا تضمنته أَسمَاء من يكْتب اسْمه مِنْهُم عقبه بِخَط من يكْتب مِنْهُم أَو خطوط الْعُدُول الثِّقَات عَمَّن لم يكن يحسن الْكِتَابَة وأذنوا لمن يكْتب عَنْهُم بيعَة تمّ بِمَشِيئَة الله تَمامهَا وَعم بالصوب المغدق غمامها سعيدة مَيْمُونَة شريفة لَهَا السَّلامَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا مَضْمُونَة صَحِيحَة شَرْعِيَّة ملحوظة مرعية دائبة دائمة لَازِمَة جازمة صَحِيحَة صَرِيحَة متعبة مريحة على الْأَمْن وَالْأَمَانَة والعفاف والديانة وعَلى مَا بُويِعَ بِهِ مَوْلَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الراشدون من بعده وَالْأَئِمَّة المهتدون الموفون بعهده وعَلى السّمع وَالطَّاعَة وملازمة السّنة وَالْجَمَاعَة قرت بهَا نواظرهم وَشهِدت بذلك على صفاء بواطنهم ظواهرهم وأعطوا بهَا صَفْقَة أَيْديهم وأمضوها إِمْضَاء يدينون بِهِ فِي السِّرّ والجهر والمنشط وَالْمكْره واليسر والعسكر أجمع عَلَيْهَا أَرْبَاب العقد
إِلَى أَصله وَأحل عزه فِي مَحَله وَأما ورعه وَصَبره وحياؤه وتوقفه فِي الدِّمَاء توقفا تَاما إِلَّا إِذا حصحص الْحق وَصرح الشَّرْع فَكل ذَلِك أَمر مَعْلُوم يُعلمهُ الْخُصُوص والعموم وَأما آثاره بالمغرب فشيء كثير من ذَلِك مَا افْتتح بِهِ ولَايَته من بِنَاء مَا تهدم من مرسى طنجة وصير عَلَيْهِ مَالا عَظِيما حَتَّى أَعَادَهُ أحسن وَأحْصن مِمَّا كَانَ وَمن ذَلِك تَجْدِيد الْحرم الإدريسي بفاس وَبِنَاء مَسْجده وتوسعته وتنميقه حَسْبَمَا مر وَمن ذَلِك البرجان العظيمان بسلا وأشبار الْكَبِير المواجه للبحر مِنْهَا والمارستان الْكَبِير بضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر والمنار الشهير بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم مِنْهَا وخزين البارود بالقليعة وَغير ذَلِك وأشبار الْكَبِير برباط الْفَتْح وَبنى بأعمالها لحفظها وتأمين طرقها قصبتين كبيرتين إِحْدَاهمَا الصخيرات وَالْأُخْرَى قَصَبَة أبي زنيقة فأمن النَّاس بهما وارتفقوا بالتردد إِلَيْهِمَا وجدد مَا تهدم من أبراج الصويرة واعتنى بهَا وصير عَلَيْهَا أَمْوَالًا ثقالا فَجَاءَت فِي غَايَة الإتقان والحصانة وَمن آثاره بمراكش آجدال الشهير وتجديد جَامع الْمَنْصُور بالقصبة بعد أَن لم يبْق مِنْهُ إِلَّا الِاسْم فَأَعَادَهُ إِلَى حَالَته الأولى على ضخامته وانفساحه وعلو بنائِهِ وتجديد جَامع الكتبيين مرَّتَيْنِ وَإِصْلَاح قبَّة الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي رَضِي الله عَنهُ وَالزِّيَادَة فِي جَامع الشَّيْخ أبي إِسْحَاق البلفيقي بسوق الدقاقين مِنْهَا وَهدم جَامع الْوُسْطَى وإعادته على شكل بديع وهيئة حَسَنَة وَبِنَاء جَامع أبي حسون وَإِقَامَة الْجُمُعَة بِهِ كَمَا كَانَت أَولا وَبِنَاء جَامع القنارية وَالزِّيَادَة فِيهِ وَمن آثاره بِحَضْرَة فاس الْعليا تَجْدِيد بُسْتَان آمِنَة المرينية
قَالَ أكنسوس وَكَانَ هَذَا الْبُسْتَان خرابا تألفه الوحوش مَعَ أَنه بِبَاب دَار السُّلْطَان وَفِي سرة الحضرة وَقد كَانَ فِي الدول المرينية على هَيْئَة بهية فِيهِ ظَهرت زِينَة تِلْكَ الدولة وضخامتها وَفِيه مَقَاعِدهمْ ومنازلهم الْعَالِيَة ومجالسهم المشرفة على بساتين المستقى إِلَى أَن قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَت تِلْكَ الْعَرَصَة منية من زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وجنة حائزة من الْبَهْجَة الْمرتبَة الْعليا ثمَّ أخنت عَلَيْهَا الْأَيَّام بصروفها ومحت من تِلْكَ الرسوم جَمِيع حروفها فرآها

الصفحة 79