كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

بَقِيَّة أَخْبَار الْأَمِير عبد الْحق وَسيرَته

قَالُوا كَانَ الْأَمِير عبد الْحق المريني مَشْهُورا فِي قومه بالتقى وَالْفضل وَالدّين موسوما بالصلاح وَصِحَّة الْيَقِين مَعْرُوفا بالورع والعفاف مَوْصُوفا فِي سيرته بِالْعَدْلِ والإنصاف يطعم الطَّعَام ويكفل الْأَيْتَام ويؤثر الْمَسَاكِين ويحنو على الْمُسْتَضْعَفِينَ وَكَانَت لَهُ بركَة مَعْرُوفَة ودعوة مستجابة مَوْصُوفَة وَكَانَت قلنسوته وسراويله يتبرك بهما فِي جَمِيع أَحيَاء زناتة وَكَانُوا يحملون فضلَة وضوئِهِ فيستشفون بهَا لمرضاهم وَكَانَ يسْرد الصَّوْم فَلَا يزَال صَائِما طول عمره فِي الْحر وَالْبرد لَا يرى مُفطرا إِلَّا فِي أَيَّام الأعياد كثير الذّكر والأوراد لَا يفتر عَنْهَا فِي سَائِر الْحَالَات متحريا لأكل الْحَلَال لَا يقتات إِلَّا من لُحُوم إبِله وَأَلْبَانهَا أَو مَا يعانيه من الصَّيْد مُعظما فِي بني مرين مُطَاعًا فيهم يقفون عِنْد أمره وَلَا يصدرون إِلَّا عَن رَأْيه
حكى ابْن أبي زرع عَمَّن حَدثهُ من الثِّقَات أَنه قدم على أَمِير الْمُسلمين يَعْقُوب بن عبد الْحق فِي وَفد من أَعْيَان فاس وفقهائها وَذَلِكَ فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة والأمير يَعْقُوب يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح يُرِيد العبور إِلَى ألأندلس برسم الْجِهَاد قَالَ فَجرى فِي مَجْلِسه ذكر وَالِده الْأَمِير عبد الْحق فَقَالَ الْأَمِير يَعْقُوب كَانَ الْأَمِير عبد الْحق رَحمَه الله صَادِق القَوْل إِذا قَالَ فعل وَإِذا عَاهَدَ وفى لم يحلف بِاللَّه قطّ بارا وَلَا حانثا وَلم يشرب مُسكرا قطّ وَلَا ارْتكب فَاحِشَة تضع الْحَوَامِل ببركة إزَاره مَتى عسرت عَلَيْهِنَّ الْولادَة وَكَانَ يسْرد الصَّوْم وَيقوم أَكثر اللَّيْل وَإِذا سمع بِخَبَر صَالح أَو عَابِد قصد لزيارته واستوهب مِنْهُ الدُّعَاء شَدِيد الْخَوْف من الصَّالِحين متواضعا لَهُم وَكَانَ مَعَ ذَلِك سما لأعدائه قاهرا لَهُم وَمَا وجدنَا إِلَّا بركته وبركة من دَعَا لَهُ من الصَّالِحين
قَالُوا وَكَانَ الْأَمِير عبد الْحق فِي ابْتِدَاء أمره قَلِيل الْأَوْلَاد فَرَأى ذَات لَيْلَة فِي مَنَامه كَانَ شعلا أَرْبعا من نَار خرجن مِنْهُ فعلون فِي جو الْمغرب ثمَّ احتوين على جَمِيع أقطاره فَكَانَ تَأْوِيلهَا تمْلِيك بنيه الْأَرْبَعَة من بعده وَهَذَا
مُتبع يجمع شتات الْإِيمَان ويحمي حوزة الدّين وبيضة الْإِسْلَام ويرعى مصلحَة الْمُسلمين وغبطة الْأَنَام وَلَا يستتب ذَلِك إِلَّا بنجدته وشوكته وَجُنُوده وعدته فيهم مجاهدة الْكفَّار وحماية الثغور وكف أَيدي الطغاة المارقين ومنعهم من مد الْأَيْدِي إِلَى الْأَمْوَال وَالْحرم والأزواج فهم الحراس للدّين عَن أَن تنْحَل دعائمه وتتخاذل قواه بتوغل الْكفَّار فِي بِلَاد الْمُسلمين وهم الحماة للدنيا عَن أَن يخْتل نظامها بالتغالب والتسالب والتواثب من طغام النَّاس بِفضل العرامة والباس وَلَا يخفى عَلَيْكُم كَثْرَة مؤنهم واستيعاب حاجاتهم فِي نُفُوسهم وعيالهم والمرصد لَهُم خمس الْخمس من الْغَنَائِم والفيء وَذَلِكَ مِمَّا يضيق فِي غَالب الْأَمر عَن الْوَفَاء بخراجاتهم والكفاية لحاجاتهم وَلَيْسَ يعم ذَلِك الا بتوظيف الْخراج على الْأَغْنِيَاء فَإِن كُنْتُم تتبعون الْمصَالح فَلَا بُد من الترخيص فِي ذَلِك مَعَ ظُهُور الْمصلحَة
قُلْنَا الَّذِي نرَاهُ جَوَاز ذَلِك عِنْد ظُهُور الْمصلحَة وَإِنَّمَا النّظر فِي بَيَان وَجه الْمصلحَة فَنَقُول أَولا التوظيف فِي عصرنا هَذَا مزاجه ومنهاجه ظلم مَحْض لَا رخصَة فِيهِ فَإِن آحَاد الْجند لَو استوفيت جراياتهم ووزعت على الكافة لكفتهم بُرْهَة من الدَّهْر وَقدرا صَالحا من الْوَقْت وَقد شمخوا بتنعمهم وترفههم فِي الْعَيْش وإسرافهم فِي إفَاضَة الْأَمْوَال على العيارة ووجوه التجمل على سَائِر الأكاسرة فَكيف يقدر احتياجهم إِلَى توظيف خراج لإمدادهم وإرفاقهم وكافة أَغْنِيَاء الدَّهْر فُقَرَاء بِالْإِضَافَة إِلَيْهِم فَأَما لَو قَدرنَا إِمَامًا مُطَاعًا مفتقرا إِلَى تَكْثِير الْجند لسد الثغور وحماية الْملك بعد اتساع رقعته وانبساط خطته وَقد خلا بَيت المَال عَن المَال وأرهقت حَاجَة الْجند إِلَى مَا يكفيهم وخلت عَن مِقْدَار كفايتهم أَيْديهم فللإمام أَن يوظف على الْأَغْنِيَاء مَا يرَاهُ كَافِيا لَهُم فِي الْحَال إِلَى أَن يظْهر مَال فِي بَيت المَال ثمَّ إِلَيْهِ النّظر فِي توظيف ذَلِك على وُجُوه الغلات والارتفاقات بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي تَخْصِيص بعض النَّاس بِهِ إِلَى إيغار الصُّدُور وإيحاش الْقُلُوب وَيَقَع ذَلِك
مُحَمَّد بن الطّيب ثمَّ نَهَضَ من فاس الْجَدِيد بِقصد تفقد الممالك فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَسَار حَتَّى وصل إِلَى قصر كتامة وعسكر هُنَالك بالكدية الإسماعيلية وَبهَا وَفد عَلَيْهِ الْمولى عبد السَّلَام ابْن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فِي جمَاعَة من الْأَشْرَاف وَالْكتاب فيهم أَبُو عبد الله أكنسوس وَكَانَ الْمولى عبد السَّلَام الْمَذْكُور قد قدم من تافيلالت إِلَى مراكش عقب وَفَاة وَالِده بِقصد أَخذ الْبيعَة على أهل مراكش لِأَخِيهِ الْمولى عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان وَكَانَ قد بُويِعَ بتافيلالت وَأَعْطوهُ صَفْقَة أَيْمَانهم فَلَمَّا صَادف الْمولى عبد السَّلَام الْأَمر قد تمّ للسُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وَاجْتمعت كلمة أهل الْمغرب عَلَيْهِ سقط فِي يَده فَأَعْرض عَمَّا جَاءَ لأَجله وتدارك أمره عِنْد السُّلْطَان بالوفادة عَلَيْهِ وَالدُّخُول فِي بيعَته
قَالَ أكنسوس لما قدمنَا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن من مراكش إِلَى قصر كتامة أَمر بإدخالي عَلَيْهِ لشدَّة تشوفه إِلَى أَخْبَار السُّلْطَان المرحوم الْمولى سُلَيْمَان فَدخلت عَلَيْهِ وَجَلَست بَين يَدَيْهِ نَحْو ساعتين وسألني عَن كل شَاذَّة وفاذة قَالَ ثمَّ دخلت عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْمغرب وسألني عَن بَقِيَّة الْأَخْبَار ثمَّ ذكر أَوْلَاد عَمه السُّلْطَان المرحوم وَقَالَ وَالله لَا يرَوْنَ مني إِلَّا الْخَيْر ثمَّ بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح فاستقر بهَا ثمَّ وفدت عَلَيْهِ قبائل الْحَوْز ورؤساؤها فعيد هُنَالك عيد الْفطر من سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس وَمَعَهُ أَعْيَان قبائل الْحَوْز الَّذين وفدوا عَلَيْهِ وَلما احتل بفاس قدم عَلَيْهِ عَمه الْمولى مُوسَى بن مُحَمَّد مَعَ جمَاعَة من أهل مراكش وَفِيهِمْ الْمولى عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان المبايع بسجلماسة فأكرمهم وأجلهم وَلم يلم أحدا من شيعَة الْمولى عبد الْوَاحِد وَلَكِن عَفا وصفح وقابل بِالْإِحْسَانِ ثمَّ ولى على مراكش ابْن عَمه الْمولى مبارك بن عَليّ بن مُحَمَّد وَبَعثه فِي صحبتهم فَقَدمهَا وَتصرف فِي أمرهَا إِلَى أَن كَانَ مِنْهُ مَا نذكرهُ ثمَّ أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بشرَاء دَار أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام شقشاق الفاسي وَكَانَت مجاورة لقبة الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ بَينهَا وَبَين القيسارية ثمَّ

الصفحة 8