كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
إِلَيْهَا الطير لَا بل الطيف وَاسْتمرّ مُقيما عَلَيْهَا كَذَلِك مائَة شهر وَلما دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة اختط إِلَى جَانب ذَلِك السُّور بمَكَان فسطاطه وقبابه قصرا لسكانه وَاتخذ بِهِ مَسْجِدا لصلاته وأدار عَلَيْهِمَا سورا يحرزهما ثمَّ أَمر النَّاس بِالْبِنَاءِ حول ذَلِك فبنوا الدّور الواسعة والمنازل الرحيبة والقصور الأنيقة وَاتَّخذُوا الْبَسَاتِين وأجروا الْمِيَاه وَأمر السُّلْطَان باتخاذ الحمامات والفنادق والمارستان وابتنى مَسْجِدا جَامعا أَقَامَهُ على الصهريج الْكَبِير وشيد لَهُ منارا رفيعا وَجعل على رَأسه تفافيح من ذهب صير عَلَيْهَا سَبْعمِائة دِينَار ثمَّ أدَار السُّور على ذَلِك كُله فَصَارَت مَدِينَة عَظِيمَة استبحر عمرانها ونفقت أسواقها ورحل إِلَيْهَا التُّجَّار بالبضائع من جَمِيع الْآفَاق وسماها المنصورة فَكَانَت من أعظم أَمْصَار الْمغرب وأحفلها إِلَى أَن خربها آل يغمراسن عِنْد مهلك السُّلْطَان يُوسُف وارتحال جيوشه عَنْهَا وَلما تمكن السُّلْطَان يُوسُف من حِصَار تلمسان سرح كتائبه وسراياه فِي أَعمالهَا وحصونها فاستولى فِي مُدَّة قريبَة على ندرومة وهنين ووهران وتالموت وتامزردكت ومستغانم وتنس وشرشال وبرشك والبطحاء ومازونة ووانشريس ومليانة والقصبات ولمدية وتافرجينت وَجَمِيع بِلَاد بني عبد الواد وبلاد بني توجين وبلاد مغراوة وَبَايَعَهُ ابْن عَلان صَاحب الجزائر وَأخذ رعبه بملوك الناحي وَكَانَت دولة بني أبي حَفْص يَوْمئِذٍ قد انقسمت بقسمين فَصَارَ كرْسِي مِنْهَا بتونس وَآخر ببجاية فتنافس صَاحب تونس وَصَاحب بجاية فِي مصانعة السُّلْطَان يُوسُف والتقرب إِلَيْهِ بالهدايا والتحف وَصَارَ السُّلْطَان يُوسُف فِي ذَلِك الْوَقْت ملك الْمغرب على الْحَقِيقَة وَالْإِطْلَاق وَالله غَالب على أمره
نكبة بَين وقاصة من يهود فاس
كَانَ بَنو وقاصة هَؤُلَاءِ من يهود ملاح فاس وَكَانُوا مداخلين للسُّلْطَان يُوسُف من صغره إِلَى كبره وَكَانُوا يتولون قهرمة دَاره ويقضون أُمُوره الْخَاصَّة
والحل وَأَصْحَاب الْكَلَام فِيمَا قل وَجل وَمن يُوصف بِعلم وَقَضَاء وَمن يرجع إِلَيْهِ فِي رد وإمضاء لم يُخَالف فِيهَا إِمَام مَسْجِد وَلَا خطيب وَلَا ذُو فَتْوَى يسْأَل فيجيب وَلَا من يجْتَهد فِي رَأْي فيخطىء أَو يُصِيب وَلَا مَعْرُوف بدين وَصَلَاح وَلَا فرسَان حَرْب وكفاح وَلَا طَاعن بِرُمْح وَلَا ضَارب بصفاح وَلَا وُلَاة الْأَمر وَالْأَحْكَام وَلَا حَملَة الْعلم الْأَعْلَام وَلَا حماة السيوف والأقلام وَلَا أَعْيَان السَّادة الْأَشْرَاف وَلَا أكَابِر الْفُقَهَاء وَمن انخفض قدره وَمن أناف بيعَة تمت بهَا نعْمَة من وحد الله قائلين {الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} الْأَعْرَاف 43 {إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله} الْفَتْح 10 الْآيَة فَمن حضر خَواص من ذكر وعوامهم قيد شَهَادَته بمضمن العقد الْمَنْصُوص مُلْتَزما لجَمِيع مَا اقْتَضَاهُ من الْعُمُوم وَالْخُصُوص باسطا كَفه بِالدُّعَاءِ والابتهال والتضرع لذِي الْعِزَّة والجلال قَائِلا اللَّهُمَّ كَمَا خصصت مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بمزيد الْكَرَامَة وارتضيته لمقام الْإِمَامَة وانتخبته من أَشْرَاف النَّاس وصنت بِهِ وُجُوههم عَن الباس فانصره اللَّهُمَّ نصرا مؤزرا وَاجعَل نصِيبه من عنايتك وكفايتك جزيلا موفرا وَأَن لَهُ فِي كل مرام فتحا مُبينًا وظفرا ميسرًا معينا وأسعدنا اللَّهُمَّ بأيامه واكلأه بكلاءتك فِي ظعنه ومقامه وَاجعَل بيعَته الْمُبَارَكَة بيعَة تخلد بهَا مآثره تخليدا وتؤيد علوه وتأييده وَنَصره تأييدا وأبقه على الْأَنَام شفيقا وبجميعهم بارا رَفِيقًا وأعنه اللَّهُمَّ على مَا وليته من أُمُور عِبَادك ومهد لَهُ أتم التَّمْهِيد فِي أقطار بلادك وَكن لَهُ فِيمَا يرضيك مؤيدا وظهيرا وَاجعَل لَهُ من لَدُنْك وليا وسلطانا نَصِيرًا أجب دعاءنا إِنَّك با مَوْلَانَا ولي ذَلِك وَبِه قدير وَأَنت نعم الْمولى وَنعم النصير وبالإجابة جدير وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْكَبِير وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين فِي ثامن عشر شعْبَان عَام أَرْبَعَة وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتَهَت
الْمُلُوك قبل مَوْلَانَا الْمُؤَيد فَلم يرقوا لحالها وَلَا أنقذوها من أوحالها مَعَ أَنَّهَا فِي جوارهم وعقر دِيَارهمْ فعطف الله عَلَيْهَا هَذَا السُّلْطَان الْمُبَارك فَأَعَادَ بعد الْمَمَات محياها وأبرز من ظلمات الْعَدَم جميل محياها
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله
كَانَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رَحمَه الله بِعَين الرضى من وَالِده مُنْذُ نَشأ وشب وَكَانَ متميزا عَن سَائِر إخْوَته بِشدَّة البرور بِأَبِيهِ ومتصفا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار وَالصَّلَاح وَالتَّقوى وَسَائِر خِصَال الْخَيْر واستخلفه أَبوهُ صَغِيرا فَجرى على السّنَن الأقوم وحمدت سيرته وَلما رأى مِنْهُ السُّلْطَان رَحمَه الله مخايل النجابة وَالصَّلَاح فوض إِلَيْهِ وَألقى بزمام مَمْلَكَته بيدَيْهِ وَلم يدّخر عَنهُ شَيْئا من أُمُور الْملك ووظائفه فاستلحق فِي أَيَّام أَبِيه واستركب وَاتخذ العساكر وجند الأجناد وَقدم وَأخر وخفض وَرفع وَأعْطى وَمنع حَتَّى كَأَنَّهُ ملك مُسْتَقل وَكَانَت الْعَادة أَنه إِذا كَانَ السُّلْطَان بمراكش كَانَ سَيِّدي مُحَمَّد هَذَا بفاس أَو بمكناسة وَبِالْعَكْسِ فَلَمَّا مرض السُّلْطَان رَحمَه الله مرض مَوته بمكناسة كَانَ سَيِّدي مُحَمَّد بمراكش فَلم يرعه إِلَّا وُرُود الْكتب عَلَيْهِ من أَخِيه الْمولى الْعَبَّاس وَمن الْوَزير أبي عبد الله الصفار أَن السُّلْطَان قد أشرف وَوَقع الْيَأْس مِنْهُ فَنَهَضَ سَيِّدي مُحَمَّد من مراكش منزعجا وجد السّير لَعَلَّه يدْرك حَيَاة أَبِيه فَلَمَّا كَانَ بِبِلَاد السراغنة على مرحلَتَيْنِ من مراكش اتَّصل بِهِ الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان رَحمَه الله ثمَّ قدمت عَلَيْهِ بيعَة أهل الحضرتين فاس ومكناسة وَجَمِيع الْجَيْش البُخَارِيّ وَسَائِر أهل الْحل وَالْعقد من أَعْيَان الْقَبَائِل والبربر فَاسْتَرْجع السُّلْطَان لمصابه وشكر الله إِذْ أبقى أَمر الْمُسلمين فِي نصابه وَكتب بالْخبر إِلَى مراكش وَبعث بالبيعة الْوَارِدَة عَلَيْهِ فَاجْتمع أهل مراكش على طبقاتهم بِجَامِع الكتبيين وَحضر عَامل الْبَلَد يَوْمئِذٍ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن أبي سِتَّة وقائد الْجَيْش السُّوسِي بالقصبة أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن سعيد
الصفحة 80