كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

وَفَاة السُّلْطَان يُوسُف رَحمَه الله
كَانَ السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله قد اتخذ فِي جملَة حَاشِيَته ومماليكه خَصيا اسْمه سَعَادَة وَكَانَ هَذَا الْخصي قد تصير إِلَيْهِ من جِهَة أبي عَليّ الملياني أَيَّام كَانَ عَاملا لَهُ على مراكش وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف فِي ابْتِدَاء أمره يخلط الخصيان بأَهْله وَلَا يحجبهم عَن حرمه وَعِيَاله ثمَّ حدثت للسُّلْطَان رِيبَة فِي بعض الخصيان فَأعتق جملَة مِنْهُم كَانَ فيهم عنبر الْكَبِير عريفهم وحجب سَائِرهمْ فارتاعوا لذَلِك وفسدت نياتهم فسولت لهَذَا الْخصي الْخَبيث نَفسه الشيطانية الفتك بالسلطان فَعمد إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بعض حجر قصره فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَأذن لَهُ فألفاه مُسْتَلْقِيا على فرَاشه مختضبا بحناء فَوَثَبَ عَلَيْهِ وطعنه طعنات قطع بهَا أمعاءه وَخرج هَارِبا وَانْطَلق بعض الْأَوْلِيَاء فِي أَثَره فأدركه من الْعشي بِنَاحِيَة تاسلت فَقبض عَلَيْهِ وَجِيء بِهِ إِلَى الْقصر فَقتلته العبيد والحاشية وصابر السُّلْطَان يُوسُف منيته إِلَى آخر النَّهَار ثمَّ قضى رَحمَه الله يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع ذِي الْقعدَة من سنة سِتّ وَسَبْعمائة وقبر هُنَالك ثمَّ نقل بعد مَا سكنت الهيعة إِلَى مقبرتهم بشالة فَدفن بهَا مَعَ سلفه وأطلال ضريحه لَا زَالَت مائلة إِلَى الْآن
وبموت السُّلْطَان يُوسُف انْقَضتْ مُدَّة الْحصار عَن آل يغمراسن وقومهم من بني عبد الواد وَسَائِر أهل تلمسان وَكَانَت الْمدَّة فِي ذَلِك مائَة شهر كَمَا قُلْنَا نالهم فِيهَا من الْجهد والشدة مَا لم ينل أمة من الْأُمَم واضطروا إِلَى أكل الْجِيَف والقطوط والفيران حَتَّى أَنهم أكلُوا فِيهَا أشلاء الْمَوْتَى من النَّاس وخربوا السقوف للوفود وغلت أسعار الأقوات والحبوب وَسَائِر الْمرَافِق بِمَا
فأغرق جَمِيع من كَانَ خَارج الْمَدِينَة فِي تِلْكَ الْجِهَة وصادف قافلة ذَاهِبَة إِلَى مراكش فِيهَا من الدَّوَابّ وَالنَّاس عدد كثير فأتلف الْجَمِيع وَرمى بالقوارب والزوارق الَّتِي فِي الْوَادي إِلَى مَسَافَة بعيدَة جدا ثمَّ بعد هَذِه بِنَحْوِ سِتَّة وَعشْرين يَوْمًا عَادَتْ زَلْزَلَة أُخْرَى أَشد من الأولى بعد صَلَاة الْعشَاء هِيَ الَّتِي أثرت فِي مكناسة غَايَة وَهلك تَحت الْهدم بهَا نَحْو عشرَة آلَاف نفس وَفعلت بفاس أَيْضا فعلا شنيعا انْظُر تَمام كَلَامه فقد أَطَالَ فِي وصفهَا
وَفِي يَوْم الْأَحَد التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف انكسفت الشَّمْس وَبَقِي مِنْهَا مثل الْهلَال ثمَّ انجلت بعد حِين
وَفِي فجر يَوْم الْأَحَد الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف توفّي الشريف الْبركَة مولَايَ الطّيب بن مُحَمَّد الوزاني وعمره ينيف على الثَّمَانِينَ سنة وَبعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف انكسفت الشَّمْس وَظَهَرت النُّجُوم لِكَثْرَة الظلام ثمَّ انجلت وَرجعت لحالها بعد نصف سَاعَة وَنَحْوهَا
وَفِي أَعْوَام تسعين وَمِائَة وَألف كَانَت المجاعة الْكَبِيرَة بالمغرب وانحبس الْمَطَر وَوَقع الْقَحْط وَكثر الْهَرج ودام ذَلِك قَرِيبا من سبع سِنِين
وَفِي أَوَاخِر ربيع الثَّانِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام الْمُحَقق البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بناني الفاسي الْفَقِيه الْمَشْهُور صَاحب التآليف الحسان مثل حَاشِيَته البديعة على شرح الشَّيْخ عبد الْبَاقِي الزّرْقَانِيّ على مُخْتَصر خَلِيل حكى الْعَلامَة الرهوني فِي حَاشِيَته قَالَ لما أخبر الشَّيْخ التاودي ابْن سَوْدَة بوفاته جَاءَ فَزعًا وَهُوَ يبكي فَلَقِيَهُ بعض النَّاس فَقَالَ لَهُ الله يَجْعَل الْبركَة فِيكُم فَقَالَ لم تبْق بركَة بعد هَذَا الرجل وَذَلِكَ لمعرفته بمكانته
وَفِي ضحى يَوْم السبت الثَّامِن عشر من صفر سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف توفّي الشريف الْبركَة الْمولى أَحْمد بن الطّيب الوزاني رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وبأسلافه آمين
هَذَا المهم وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة توفّي السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله وَولي ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وَقدم مكناسة وَاجْتمعت كلمة أهل الْمغرب عَلَيْهِ فَكتب لَهُ الشريف سَيِّدي الْحَاج عبد السَّلَام بِأَمْر أهل اللانجرة وَقرر لَهُ مطلبهم فَشَاور السُّلْطَان فِي ذَلِك بعض حَاشِيَته فَمَال إِلَى الْحَرْب وَذَلِكَ كَانَ الرَّاجِح عِنْد السُّلْطَان لِأَنَّهُ عظم عَلَيْهِ أَن يُمكن الْعَدو من اثْنَي عشرا من الْمُسلمين وفْق اقتراحه واختياره يقتلهُمْ بِمحضر الْمَلأ من نواب الْأَجْنَاس وَرَأى رَحمَه الله أَن لَا يُمكنهُ من مطلبه حَتَّى يعْذر فِيهِ فاستخار الله تَعَالَى وَبعث خديمه الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج الطَّاهِر الزُّبْدِيُّ الرباطي إِلَى الْخَطِيب بطنجة وَأمره أَن ينظر فِي الْقَضِيَّة ويستكشف الْحَال وَأَن لَا يجنح إِلَى الصُّلْح إِلَّا إِذا لم يجد عَنهُ محيصا وَكثر المتنصحون لَدَى السُّلْطَان وهونوا عَلَيْهِ أَمر الْعَدو جدا مَعَ أَنه لَيْسَ من السياسة تهوين أَمر الْعَدو وتحقيره وَلَو كَانَ هينا حَقِيرًا فوصل الزُّبْدِيُّ إِلَى طنجة وَاجْتمعَ بالخطيب وفاوضه فِي الْقَضِيَّة فَوجدَ الْخَطِيب جانحا إِلَى السّلم فَأبى أَن يساعده على ذَلِك وَأظْهر كتاب السُّلْطَان بتفويض النّظر إِلَيْهِ فِي النَّازِلَة فَتَأَخر الْخَطِيب عَنْهَا وَترك الْخَوْض وَالْكَلَام فِيهَا وَآخر الْأَمر أَن الزُّبْدِيُّ انْفَصل مَعَ نَائِب الإصبنيول على الْحَرْب وَذهب إِلَى حَال سَبيله وأزال الإصبنيول سنجقه من طنجة وَركب إِلَى بِلَاده فِي الْحِين وَكتب الزُّبْدِيُّ إِلَى السُّلْطَان بالْخبر فَكتب السُّلْطَان إِلَى الثغور يُخْبِرهُمْ بِمَا عقده مَعَ الإصبنيول من الْحَرْب وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا على حذر وَأَن يَأْخُذُوا أهبتهم للْجِهَاد وَفتح السُّلْطَان بَيت المَال وأبدأ وَأعَاد فِي تَفْرِيق المَال وَالسِّلَاح والكسي وَقدم أَولا الْقَائِد الْمَأْمُون الزراري إِلَى تطاوين فِي نَحْو مائَة فَارس وَخَمْسمِائة من رُمَاة الْعَسْكَر فرابطوا خَارج تطاوين إِلَى جِهَة سبتة ثمَّ برز جَيش الإصبنيول من سبتة فِي نَحْو عشْرين ألفا من الْعَسْكَر فِي غَايَة الاستعداد وَكَمَال الشَّوْكَة وَنزل على طرف المحدة دَاخل أرضه وَكَانَ خُرُوجه يَوْم السبت أواسط ربيع الأول سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنَهَضَ إِلَيْهِ أهل اللانجرة وَمن جاورهم من قبائل الْجَبَل وتسامع النَّاس بذلك فقدموا من كل جِهَة حَتَّى اجْتمع مِنْهُم نَحْو

الصفحة 85