كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وَإِذا بدعد قهرمانة الْقصر وَكَانَت وصيفة من وصائف بنت السُّلْطَان أبي إِسْحَاق حظية أَبِيهِم قد خرجت من الْقصر إِلَيْهِم وحيتهم وَقَالَت لَهُم تَقول لكم خَطَايَا قصركم وَبَنَات زيان حرمكم مَا لنا وللبقاء وَقد أحيط بكم وأسف عَدوكُمْ لالتهامكم وَلم يبْق الأفواق نَاقَة لمصارعكم فأريحونا من معرة السَّبي وقربونا إِلَى مصارعنا وأريحوا أَنفسكُم فِينَا فالحياة فِي الذل عَذَاب والوجود بعدكم عدم فَالْتَفت أَبُو حمو إِلَى أَخِيه أبي زيان وَكَانَ من الشَّفَقَة بمَكَان فَقَالَ قد صدقتك الْخَبَر فَمَا تنْتَظر بِهن فَقَالَ يَا مُوسَى أرجئني ثَلَاثًا لَعَلَّ الله يَجْعَل بعد عسر يسرا وَلَا تشاورني بعْدهَا فِيهِنَّ بل سرح الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِلَى قتلهن وَتَعَالَى إِلَيّ نخرج مَعَ قَومنَا إِلَى عدونا فنستميت وَيَقْضِي الله مَا شَاءَ فَغَضب أَبُو حمو وَأنكر عَلَيْهِ التَّأْخِير فِي ذَلِك وَقَالَ إِنَّمَا نَحن وَالله نتربص المعرة بِهن وبأنفسنا وَقَامَ عَنهُ مغضبا وجهش السُّلْطَان أَبُو زيان بالبكاء قَالَ أَيْن جحاف وَأَنا بمكاني بَين يَدَيْهِ لَا أملك مُتَأَخِّرًا وَلَا مُتَقَدما إِلَى أَن غلب عَلَيْهِ النّوم فَمَا راعني إِلَّا حرسي يالباب يُشِير إِلَيّ أَن أعلم السُّلْطَان بمَكَان رَسُول جَاءَ من محلّة بني مرين وَهَا هُوَ بسدة الْقصر قَالَ ابْن جحاف فَلم أطق رد جَوَابه إِلَّا بِالْإِشَارَةِ وانتبه السُّلْطَان من همسنا فَزعًا فأعلمته فاستدعاه للحين فَلَمَّا وقف بَين يَدَيْهِ قَالَ إِن السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب هلك السَّاعَة وَأَنا رَسُول حافده أبي ثَابت إِلَيْكُم فَاسْتَبْشَرَ السُّلْطَان أَبُو زيان واستدعى أَخَاهُ وَقَومه حَتَّى بلغ الرَّسُول الْمَذْكُور رسَالَته بمسمع مِنْهُم فَكَانَت إِحْدَى المغربات فِي الْأَيَّام وَكَانَ من خبر هَذِه الرسَالَة أَن السُّلْطَان يُوسُف لما هلك تطاول لِلْأَمْرِ بعده القربابه من إخْوَته وَولده وحفدته وتحيز حافده أَبُو ثَابت إِلَى بني ورتاجن لخؤلة كَانَت لَهُ فيهم فاستجاش بهم واعصوصبوا عَلَيْهِ وَبعث إِلَى بني زيان أَن يعطوه آلَة الْحَرْب ويكونوا مفزعا لَهُ إِن أخفق مسعاه على أَنه إِن تمّ أمره قوض عَنْهُم معسكر بني مرين وَأَفْرج عَنْهُم فعاقدوه على ذَلِك فوفى لَهُم لما تمّ أمره وَنزل لَهُم عَن جَمِيع الْأَعْمَال الَّتِي كَانَ السُّلْطَان يُوسُف غلب عَلَيْهَا من بِلَادهمْ ورحلوا إِلَى مغربهم وَالله غَالب على أمره
طيبَة وَكَانَت شمائل الْملك لائحة عَلَيْهِ إِلَى أَن أظفره الله بِهِ وَكُنَّا قدمنَا أَنه قدم على أَخِيه الْمولى يزِيد بقبائل الصَّحرَاء فأجل مقدمه وَأكْرم وفادته فَأَقَامَ الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله بفاس إِلَى أَن كَانَت وَفَاة الْمولى يزِيد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فاتصل خبر مَوته بِأَهْل فاس ومكناسة فَقَامُوا على سَاق وَاتفقَ العبيد والودايا والبربر وَأهل فاس على بيعَته لما كَانَ عَلَيْهِ من الْعلم وَالدّين وَالْفضل وَسَائِر الْأَوْصَاف الحميدة الَّتِي تفرد بهَا عَن غَيره وَلما قدم العبيد والبربر من مكناسة إِلَى فاس اجْتَمعُوا بأعيان الودايا وَأهل فاس ودخلوا ضريح الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ وَبَايَعُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان يَوْم الأثنين سَابِع عشر رَجَب سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما تمت بيعَته انْتقل إِلَى فاس الْجَدِيد فاستقر بدار الْملك مِنْهَا وقدمت عَلَيْهِ وُفُود الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر بهداياهم ثمَّ قدم عَلَيْهِ بعدهمْ قبائل بني حسن وَأهل الغرب ثمَّ أهل العدوتين سلا ورباط الْفَتْح وانحرف بعض أهل رِبَاط الْفَتْح عَن بيعَته كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ قدم عَلَيْهِ أهل الثغور الهبطية بعد أَن توقفوا عَن بيعَته مُدَّة يسيرَة لأَنهم كَانُوا قد بَايعُوا الْمولى مسلمة كَمَا مر
وَنَصّ بيعَة أهل فاس الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الْحَمد لله الَّذِي نظم بالخلافة شَمل الدّين وَالدُّنْيَا وَأَعْلَى قدرهَا على كل قدر فَكَانَت لَهَا الدرجَة الْعليا وأشرق شمسها على العوالم وأنار بنورها المعالم وَأصْلح بهَا أَمر المعاش والمعاد وَألف بهَا بَين قُلُوب الْعباد من الْحَاضِر والباد وَجعلهَا صونا للدماء وَالْأَمْوَال والأعراض وغل بهَا أَيدي الْجَبَابِرَة فَلم تصل إِلَى مفاسد الْأَغْرَاض وَقَامَ بهَا أَمر الْخلق واستقام وأقيمت الشَّرَائِع وَالْحُدُود وَالْأَحْكَام وَنصب منارها علما هاديا وأقامه إِلَى الْحق دَاعيا فأوى لظلها الوريف الْقوي والضعيف والمشروف والشريف فسبحان من قدر فهدى وَلم يتْرك الْإِنْسَان سدى بل أمره وَنَهَاهُ وحذره اتِّبَاع هَوَاهُ وطوقه الْقيام بالنفل وَالْفَرْض وَهُوَ أحكم
وتخوفوا معرته فِي مَالهم وَأَوْلَادهمْ لأَنهم كَانُوا قد أحسوا بِشدَّة شوكته فَوَعَدَهُمْ السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن يمدهُمْ ويحامي عَنْهُم وَلَا يدّخر عَنْهُم شَيْئا من الْعدَد وَالْعدَد حَتَّى يعْذر فيهم وَفِي غَيرهم ثمَّ إِن الْعَدو ارتحل من الفنيدق بعد نَحْو عشرَة أَيَّام وَتقدم نَحْو تطاوين وَكَانَ النَّاس قبل هَذَا لَا يَدْرُونَ أَيْن هُوَ قَاصد وَلما ارتحل من الفنيدق عرفُوا أَنه قَاصد تطاوين فَنزل بِموضع يُقَال لَهُ النيكرو فَأَقَامَ هُنَالك نَحْو ثَمَانِيَة أَيَّام والقتال على حَاله الْمُتَقَدّم غير أَن الْعَدو كَانَ فِي مَادَّة قَوِيَّة من الْبر وَالْبَحْر يصل إِلَيْهِ من سبتة وَغَيرهَا كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من طَعَام وعلف وأرز وشعير وبقسماط وَغير ذَلِك حَتَّى أَنه كَانَ إِذا ارتحل ترك من ذَلِك فضلَة كَثِيرَة يتعيش فِيهَا ضعفاء أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَكَانَ ذَلِك مكيدة مَقْصُودَة عِنْده يظْهر بهَا الْقُوَّة والرفاهية وَكَانَ شذاذ المتطوعة من أهل الْبَادِيَة يهجمون على مُعَسْكَره بِاللَّيْلِ ويجلبون مِنْهُ البغال والنيران ويصبحون بهَا فِي تطاوين وَغَيرهَا وَكَانَ ضعفاء الْعُقُول من الْعَامَّة يستحسنون ذَلِك وينشطون لَهُ ويرون أَنهم قد صَنَعُوا شَيْئا مَعَ أَن ذَلِك لَا عِبْرَة بِهِ فِي جنب مَا كَانَ يستولي عَلَيْهِ الْعَدو من الأَرْض ويتقدم بِهِ فِي نحر الْمُسلمين وهم يتأخرون وَالْحَاصِل أَن الْمُسلمين لم يَكُونُوا يقاتلونه على تَرْتِيب مَخْصُوص وهيئة منضبطة إِنَّمَا كَانُوا يقاتلونه وهم متفرقون أَيدي سبا فَإِذا حَان الْمسَاء تفَرقُوا إِلَى محالهم فِي غير وَقت مَعْلُوم وعَلى غير تعبية فَكَانَ قِتَالهمْ على هَذَا الْوَجْه لَا يجدي شَيْئا وَكَانَ الْعَدو يُقَاتل بالصف وعَلى تَرْتِيب مُحكم وَكَانَت عنايته بِمَا يستولي عَلَيْهِ من الأَرْض وَيرى تقدمه إِلَى أَمَام وَتَأَخر الْمُسلمين بَين يَدَيْهِ إِلَى خلف هزيمَة عَلَيْهِم
وَقد ذكر ابْن خلدون فِي فصل الحروب قتال أهل الْمغرب الَّذِي هُوَ المطاردة بالكر والفر وعابه فَقَالَ وَصفَة الحروب الْوَاقِعَة بَين أهل الْخَلِيفَة مُنْذُ أول وجودهم على نَوْعَيْنِ نوع بالزحف صُفُوفا وَنَوع بالكر والفر أما الَّذِي بالزحف فَهُوَ قتال الْعَجم كلهم على تعاقب أجيالهم وَأما الَّذِي بالكر والفر فَهُوَ قتال الْعَرَب والبربر من أهل الْمغرب وقتال الزَّحْف أوثق وَأَشد
الصفحة 87