كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

مرين يفْسد وكلمتهم تتفرق فَبعث السُّلْطَان أَبُو ثَابت لحينه وَكَانَ شهما مقداما إِلَى صَاحِبي تلمسان أبي زيان وَأبي حمو ابْني عُثْمَان بن يغمراسن فعقد لَهما عهدا على أَن يرحل عَنْهُم بجموعه وَأَن يمدوه بالآلة ويرفعوا لَهُ كسر بَيتهمْ ويضموه إِلَيْهِم إِن خَابَ أمله وَلم يتم لَهُ أَمر فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وَحضر العقد أَبُو حمو فأحكمه وَشرط عَلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو ثَابت أَن لَا يتَعَرَّضُوا لمدينة جده المنصورة بِسوء وَأَن يتعاهدوا مساجدها وقصورها بالإصلاح وَأَن من أَرَادَ الْإِقَامَة بهَا من أَهلهَا فَمَا لأحد عَلَيْهِ من سَبِيل لِأَن النَّاس كَانُوا قد استوطنوها وألفوها وطاب مقامهم بهَا وتأثلوا بهَا الأثاث وَالْمَتَاع والخرثي وَسَائِر الماعون مِمَّا يثبط المرتحل ويثقل جنَاح الناهض فَقبل أَبُو حمو ذَلِك كُله
وتفرغ السُّلْطَان أَبُو ثَابت لشأنه وَجمع كلمة قومه واختل أَمر أبي سَالم فَلم يتم وَكتب السُّلْطَان أَبُو ثَابت إِلَى حامية بني مرين وحصصها الَّتِي كَانَت مُتَفَرِّقَة فِي الثغور الشرقية الَّتِي استولى عَلَيْهَا السُّلْطَان يُوسُف أَيَّام حَيَاته فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَنْسلونَ من كل حدث وَأَسْلمُوا الْبِلَاد إِلَى أَهلهَا من بني عبد الواد وَقتل السُّلْطَان أَبُو ثَابت عَمه أَبَا سَالم بن يُوسُف ثمَّ أتبعه بعم أَبِيه أبي بكر بن يَعْقُوب فِي آخَرين من الْقَرَابَة وَغَيرهم مِمَّن يتَوَقَّع مِنْهُ الشَّرّ وفر بَقِيَّة الْقَرَابَة خشيَة على أنفسهم من سطوة أبي ثَابت فَلَحقُوا بعثمان بن أبي الْعَلَاء الثائر بجبال غمارة من عهد السُّلْطَان يُوسُف فشايعوه على أمره وتقوى بهم على مَا نذكرهُ ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو ثَابت قَاصِدا حَضْرَة فاس فِي جموع لاتحصى وأمم لَا تستقصى فعيد عيد الْأَضْحَى من سنة سِتّ وَسَبْعمائة فِي طَرِيقه بن تلمسان ووجدة ثمَّ نَهَضَ إِلَى فاس فَدَخلَهَا فاتح سنة سبع وَسَبْعمائة ثمَّ نَهَضَ بعد ذَلِك إِلَى مراكش على مَا نذكرهُ وَلما علم بَنو يغمراسن أَن أَبَا ثَابت قد أبعد عَنْهُم وَأَنه توغل فِي الْبِلَاد المراكشية واشتغل بحروب الثائرين بهَا عَمدُوا إِلَى المنصورة فَجعلُوا عاليها سافلها وطمسوا معالمها ومحوا آثارها فَأَصْبَحت كَأَن لم تغن بالْأَمْس
بلغه أَن الْمولى مسلمة معسكر بِبِلَاد الحياينة فَنَهَضَ إِلَيْهِ من فاس فأوقع بِهِ فَانْهَزَمَ الْمولى مسلمة وجيشه وَنهب جَيش السُّلْطَان حلَّة الحياينة وجاؤوا تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ونظمهم فِي سلك الْجَمَاعَة وتفرق عَن الْمولى مسلمة كل من كَانَ مَعَه من عرب الْخَلْط وَأهل الْجَبَل وَلم يبْق مَعَه إِلَّا خاصته وَأَوْلَاده وَابْن أَخِيه الْمولى حسن بن يزِيد فَسَار إِلَى جبل الزَّبِيب فَلم يقبلوه ثمَّ انْتقل إِلَى الرِّيف فأهملوه ثمَّ صعد إِلَى جبل بني يزناسن فطردوه ثمَّ توجه إِلَى ندرومة فَمَنعه صَاحبهَا من الْوُصُول إِلَى الباي صَاحب الجزائر وَكَانَ ذَلِك عَن أَمر مِنْهُ فَتوجه إِلَى تلمسان وَأقَام بهَا
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُنَاكَ اجْتمعت بِهِ فِي ضريح الشَّيْخ أبي مَدين بالعباد يَعْنِي حِين قدم تلمسان مفارقا للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَزعم أَن الْمولى مسلمة لما اجْتمع بِهِ لامه على تخذيل النَّاس عَن بيعَته وحضه إيَّاهُم على بيعَة أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان قَالَ فبينت لَهُ حَال الْمولى سُلَيْمَان وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من اتِّبَاع سيرة وَالِده فِي الْعدْل والرفق بالرعية وَبِذَلِك أحبه النَّاس فَلَمَّا سمع كَلَامي بَكَى واعترف بِالْحَقِّ وتلا قَوْله تَعَالَى {وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر} الْأَعْرَاف 188 ثمَّ طلب من صَاحب الجزائر أَن يَأْذَن لَهُ فِي الذّهاب إِلَى الْمشرق والمرور بإيالته فَأبى وَبعث من أزعجه من تلمسان إِلَى سجلماسة
وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان الْمولى سُلَيْمَان وَأَنه عَاد إِلَى سجلماسة أرسل إِلَيْهِ مَالا وكسى وَعين لَهُ قَصَبَة ينزلها ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ فِي كل شهر كَسَائِر إخْوَته فَلم يطب لَهُ مقَام بهَا وَسَار إِلَى الْمشرق فاجتاز فِي طَرِيقه بِصَاحِب تونس الْأَمِير حمودة باشا ابْن عَليّ باي
قَالَ صَاحب الْخُلَاصَة النقية قدم الْمولى مسلمة بن مُحَمَّد على الْأَمِير حمودة باشا شَرِيدًا أثر خلعه من مملكة فاس فأنزله أَسْنَى منزلَة وأجرى عَلَيْهِ جراية سلطانية وَبَالغ فِي بره اه ثمَّ أَن الْمولى مسلمة سَافر إِلَى الْمشرق فَأَقَامَ بِمصْر مُدَّة ثمَّ توجه إِلَى مَكَّة فَنزل على سلطانها صهره على أُخْته فَأكْرمه ورتب لَهُ جراية ثمَّ عَاد من مَكَّة إِلَى مصر وَسَاءَتْ حَاله فِي هَذِه الْمدَّة وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فَرجع إِلَى تونس وَنزل على حمودة
بِالْفَتْح فَقَالُوا إِن المفاتيح قد ذهبت فِي الْفِتْنَة فَقَالَ اكسروا الأقفال فكسروها وَدخل وَدخل مَعَه كبراء عسكره فَتوجه هُوَ إِلَى دَار المخزن فَنزل بهَا وافترق كبراء الْعَسْكَر فِي الْمَدِينَة بِأَيْدِيهِم وَرَقَات مَكْتُوب فِيهَا أَسمَاء الدّور الَّتِي ينزلون بهَا كل وَاحِد بداره مَكْتُوبَة فِي ورقته فَكَانَ أحدهم يسْأَل عَن دَار الرزيني وَآخر يسْأَل عَن دَار اللبادي وَآخر يسْأَل عَن دَار ابْن الْمُفْتِي وَهَكَذَا بِحَيْثُ دخلُوا على بَصِيرَة بأَمْره الْبَلَد ودور كِبَارهَا فاستقر كل وَاحِد مِنْهُم فِي دَاره الَّتِي عينت لَهُ وَأما الَّذين ذَهَبُوا نَحْو القصبة فَإِنَّهُم لما وصلوا إِلَى السُّور أنشبوا فِيهِ سلاليم من قمن غِلَاظ برؤوسها مخاطيف معوجة وتسلقوا فِيهَا بِسُرْعَة وَلما صَارُوا فِي أَعلَى البرج رفعوا سنجقهم فِي أَعلَى الصاري وأخرجوا عَلَيْهَا مدفعا وَلما سمع المشتغلون بالنهب وَالْقَتْل حس المدفع رفعوا رؤوسهم إِلَى البرج وبمجرد مَا وَقع بصرهم على بنديرة الْعَدو تلوح خَرجُوا على وُجُوههم فارين كالنعم الشارد فَالْأَمْر لله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَا أسفي على الدّين وَأَهله وَلما اسْتَقر الْعَدو بِالْبَلَدِ رتب حكامها وكف الْيَد العادية عَنْهَا وَولى على الْمُسلمين الْحَاج أَحْمد آبعير الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ دُخُوله إِلَى تطاوين واستيلاؤه عَلَيْهَا ضحوة يَوْم الْإِثْنَيْنِ الثَّالِث عشر من رَجَب سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورثاها الأديب الشريف السَّيِّد الْفضل أفيلال بقصيدة يَقُول فِيهَا
(يَا دهر قل لي على مَه ... كسرت جمع السَّلامَة)
(نصبته للدواهي ... وَلم تخف من ملامة)
(خفضت قدر مقَام ... للرفع كَانَ علامه)
(ملكته لأعاد ... لَيست تَسَاوِي قلامة)
(فالدين يبكي بدمع ... يحكيه صوب الغمامة)
(على مَسَاجِد أضحت ... تبَاع فِيهَا المدامة)
(كم من ضريح ولي ... تلوح مِنْهُ الْكَرَامَة)
(علق فِيهِ رهيب ... صليبه ولجامه)
(ومنزل لشريف ... وعالم ذِي استقامة)

الصفحة 92