كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

وانتهب الْأَمْوَال وَكَانُوا قد تمسكوا بِطَاعَة ابْن أبي الْعَلَاء وأجازوه إِلَى الْقصر فِي وسط بِلَادهمْ وبالغوا فِي تضييفه وإكرامه ودخلوا مَعَه الْقصر وآصيلا ونهبوا كثيرا من مَال أهلهما ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو ثَابت إِلَى طنجة فَدَخلَهَا فاتح سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وتحصن ابْن أبي الْعَلَاء بسبتة مَعَ أوليائه من ابْن الْأَحْمَر وسرح السُّلْطَان أَبُو ثَابت عسكره فتفرقت فِي نواحي سبتة بالغارات واكتساح الْأَمْوَال
بِنَاء مَدِينَة تطاوين

ثمَّ أَمر السُّلْطَان باختطاط مَدِينَة تطاوين لنزول عسكره وللأخذ بمخنق سبتة هَكَذَا عِنْد ابْن أبي زرع وَابْن خلدون وَاعْلَم أَن تطاوين هَذِه هِيَ تطاوين الْقَدِيمَة وَقد تقدم لنا أَن قصبتها بنيت فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَذَلِكَ لأوّل دولة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ثمَّ بنى السُّلْطَان أَبُو ثَابت هَذِه الْمَدِينَة عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّارِيخ الَّذِي هُوَ فاتح سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَكَانَ بناؤها خَفِيفا شبه الْقرْيَة عدا قصبتها فَإِن بناءها كَانَ محكما وثيقا واستمرت هَذِه الْمَدِينَة عامرة إِلَى صدر الْمِائَة التَّاسِعَة فخربت ثمَّ جدد بناؤها بعد نَحْو تسعين سنة حَسْبَمَا يَأْتِي الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالُوا وَلَفظ تطاوين مركب من كَلِمَتَيْنِ تبط وَمَعْنَاهَا فِي لِسَان البربر الْعين ووين وَهِي كِنَايَة عَن الْمُخَاطب نَحْو يَا فلَان وَمَا أشبه ذَلِك قَالُوا وَالسَّبَب فِي تَسْمِيَتهَا بذلك أَنهم فِي وَقت اختطاطهم لَهَا كَانُوا يضعون الحرس على تطاوين أَي يَا فلَان افْتَحْ عَيْنك لِأَن عَادَة الحارس أَن يَقُول ذَلِك فَصَارَ هَذَا بَعضهم تيط مَعْنَاهَا الْعين ووين مَعْنَاهَا المقلة وَمعنى مَجْمُوع الْكَلِمَتَيْنِ مقلة الْعين وَالْإِضَافَة مَقْلُوبَة كَمَا هِيَ فِي لِسَان بعض الْأُمَم العجمية فَإِنَّهُ لَا مُسْتَند لَهُ وَالله تَعَالَى أعلم
الطّيب يدبر أَمر الْقَبَائِل الجبلية وثغورها من تطاوين إِلَى طنجة إِلَى العرائش وَكلما بَدَت لَهُ فُرْجَة سدها أَو فرْصَة انتهزها وَحَارب قبائل الفحص إِلَى أَن اسْتَكَانُوا وانقادوا إِلَى الطَّاعَة ثمَّ حَارب أهل حوز طنجة وآصيلا من بني يُدِير والأخماس من أَصْحَاب زيطان فَكَانَت الْحَرْب بَينهم سجالا
ثمَّ لما دخلت سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف أمد السُّلْطَان أَخَاهُ الْمولى الطّيب بِجَيْش وافاه بطنجة فَخرج مِنْهَا وَمَعَهُ عسكرها وعسكر العرائش وصمد إِلَى بني جرفط عش الْفساد وَنزل على بِلَادهمْ وَقَاتلهمْ فِي عقر دِيَارهمْ فَقتل مُقَاتلَتهمْ وأحرق مداشرهم وانتهب أَمْوَالهم ومزقهم كل ممزق فجاؤوه خاضعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ تقدم إِلَى بني حرشن من بني يُدِير على تفيئة ذَلِك ففر الثائر زيطان إِلَى قبيلته بالأخماس وتسللت عَنهُ الْقَبَائِل الَّتِي كَانَت ملتفة عَلَيْهِ واستنزله الْمولى الطّيب بالأمان فظفر بِهِ وَبعث بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَأمْضى لَهُ أَمَانَة وولاه على قبيلته وَصَارَ من جملَة خدام الدولة ونصحائها إِلَى أَن ملك زمامها وَتعين غَيره للْقِيَام بأمرها فَأخر وَنَقله السُّلْطَان إِلَى تطاوين فسكنها ورتب لَهُ بهَا مَا يَكْفِيهِ وَبَقِي إِلَى أَوَاخِر دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَلما خرج عَلَيْهِ الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَدخل تطاوين كَانَت لزيطان هَذَا فِي التَّمَسُّك بدعوة السُّلْطَان الْيَد الْبَيْضَاء وأغنى غناء جميلا فِي تثبيت تِلْكَ الْقَبَائِل وتسكينها ثمَّ وَفد على السُّلْطَان بطنجة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَقد طعن فِي السن فَأحْسن إِلَيْهِ غَايَة الْإِحْسَان وَإِلَى الْآن لَا زَالَ أهل الْأَخْمَاس يستنصرون بحفدته ويعتقدون فيهم مَا تعتقده آيت ومالو فِي آل مهاوش وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين
وَفِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْعَلامَة الإِمَام السَّيِّد التاودي بن سَوْدَة المري الفاسي صَاحب الْحَاشِيَة على البُخَارِيّ والحاشية على شرح الشَّيْخ عبد الْبَاقِي الزّرْقَانِيّ على الْمُخْتَصر وَشرح العاصمية والزقاقية وَغير ذَلِك من التآليف المفيدة وَكَانَ رَحمَه الله خَاتِمَة الشُّيُوخ بفاس ومناقبه شهيرة
قدر الْحَاجة وَأما الأخبية فَيحمل كل ثَلَاثَة رجال خباء وَلَا تلحقهم كلفة فِي حمله لِأَن أخبيتهم فِي غَايَة اللطافة والصفافة وأعمدتها لطاف صلبة فَهِيَ مَعَ كفايتها على الْوَجْه الأتم فِي غَايَة الخفة بِحَيْثُ إِذا لف الخباء بِمَا فِيهِ كَانَ كلا شَيْء وَلَو أَرَادَ أَن يحملهُ وَاحِد لفعل لكنه يقسمهُ ثَلَاثَة أشخاص زِيَادَة فِي الرِّفْق وَلِئَلَّا يحصل الضجر إِذا طَال السّفر وَأما المدافع فقد اتَّخذُوا لَهَا عجلات أفرغت إفراغا وَركبت عَلَيْهَا على وَجه مُحكم وَاتَّخذُوا للعجلات بغالا خصية تجرها فِي غَايَة الفراهة والارتياض ويجعلون فَوق تِلْكَ العجلات صناديق الْإِقَامَة من بارود ورصاص وضوبلي وَغير ذَلِك وتجلس الطبجية على تِلْكَ الصناديق وَيقوم آخَرُونَ حَولهمْ قد أخذُوا أهبتهم لِلْقِتَالِ بِكُل مَا يُمكن ثمَّ تنْدَفع العساكر على هَذَا التَّرْتِيب صُفُوفا صُفُوفا وتتقدم شَيْئا فَشَيْئًا يخلف بَعْضهَا بَعْضًا كَأَنَّهَا أمواج الْبَحْر تبرق الشَّمْس على طموس رؤوسها وتلمع على عَددهَا المصقولة وآلاتها وَهُوَ فِي هَذِه الْحَالة لَا يفتر من رمي الكور والضوبلي والشرشم على كل جِهَة هَكَذَا قِتَاله أبدا وَإِذا أدْركهُ الْمسَاء أَو وَقعت محاجزة أثْنَاء النَّهَار وَكَانَ قَصده الثَّبَات ثَبت بمحله ذَلِك وَلَا يتزحزح عَنهُ بِحَال إِلَّا إِذا فني كل عسكره أَو جله فبمثل هَذَا الضَّبْط كَانَ لَهُ الِاسْتِيلَاء والظهور وَأما مقاتلة الْمُسلمين لَهُ فَكَانَت غير منضبطة وَإِنَّمَا قَاتله من قَاتله مِنْهُم بِاخْتِيَارِهِ وَمن قبل نَفسه وَإِن كَانَ هُنَالك ضبط من أَمِير الْجَيْش فكلا ضبط وَمَتى ظهر لَهُ أَن يذهب ذهب مَعَ أَن الله تَعَالَى يَقُول {وَإِذا كَانُوا مَعَه على أَمر جَامع لم يذهبوا حَتَّى يستأذنوه} النُّور 62 لَكِن الْمقَاتل من الْمُسلمين يَأْتِي الْقِتَال وَلَيْسَ مَعَه مَا يَأْكُل وَلَا مَا يشرب فبالضرورة إِذا جَاع أَو عَطش ذهب يبْحَث عَمَّا يُقيم بِهِ صلبه ثمَّ هم يُقَاتلُون على غير صف وَلَا تعبية بل يتفرقون فِي الشعاب ومخارم الأودية وحول الْأَشْجَار فيقاتلون من وَرَائِهَا وَإِذا دفعُوا فِي نحر الْعَدو دفعُوا زرافات ووحدانا ثمَّ إِذا أدركهم الْمسَاء وَوَقعت المحاجزة ذهب كل إِلَى خبائه الَّذِي تَركه وَرَاءه بمسافة بعيدَة

الصفحة 96