كتاب كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (اسم الجزء: 3)
وقال القرطبيّ: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضُهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غُيَّب عنّا علم حقيقتها، أي: النفس، وإذا كان كذلك، فالأوْلى أن لا نعلم علم إدراكاتها، بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منه أمورًا جُمليَّة لا تفصيلية، ونقل في "المفهم" عن بعض أهل العلم: أن لله تعالى ملكًا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورة محسوسة، فتكون تارة أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون أمثلة لمعان معقولة، وتكون في الحالين مبشرة ومنذرة. قال: ويحتاج فيما نقله عن الملك إلى توقيف من الشرع، وإلا فجائز أن يخلق الله ثلث المثالات من غير ملك. قال: وقيل: إن الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل جعلها الله تعالى أعلامًا على ما كان، أو يكون.
وقال عياض: اختلف في النائم المستغرق، فقيل: لا تصح رؤياه، ولا ضرب المثل له, لأن هذا لا يدرك شيئًا مع استغراق أجزاء قلبه, لأن النوم يخرج الحي عن صفات التمييز، والظن والتخييل، كما يخرجه عن صفة العلم. وقال آخرون بل يصح للنائم مع استغراق أجزاء قلبه بالنوم أن يكون ظانًّا أو متخيلًا، وأما العلم فلا, لأن النوم آفة تمنع حصول الاعتقادات الصحيحة. نعم. إن كان بعض أجزاء قلبه لم يحل فيه النوم فيصح، وبه يضرب المثل، وبه يرى ما يتخيله، ولا تكليف عليه حينئذ، ولأن رؤياه ليست على حقيقة وجود العلم، ولا صحة الميز، وإنما بقيت فيه بقية يدرك بها ضرب المثل. وأيده القرطبيُّ بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كان تنام عينه، وقلبه لا ينام. ومن ثم احترز القائل بقوله "المدرك من النائم" ولذا قال: منضبطة في التخيل, لأن الرائي لا يرى في منامه إلا من نوع ما يدركه في اليقظة بحسه، إلا أنَّ التخيلات قد تركب له في النوم تركيبًا تحصل به صورة لا عهد له بها، يكون علمًا على أمرٍ نادر
الصفحة 479
503