كتاب الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (اسم الجزء: 3)

الْمَفْسَدَتَيْنِ بِإِيقَاعِ أَدْنَاهُمَا وَتَفْوِيتُ الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا وَمَفْسَدَةُ الْكُفْرِ تَرْبَى عَلَى مَصْلَحَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْجِزْيَةِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بَلْ عَلَى جُمْلَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَضْلًا عَنْ هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَلِمَ وَرَدَتْ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ بِذَلِكَ وَلِمَ لَا حَتَّمَ الْقَتْلَ دَرْءًا لِمَفْسَدَةِ الْكُفْرِ؟ وَجَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ قَاعِدَةَ الْجِزْيَةِ مِنْ بَابِ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا وَتَوَقُّعِ
الْمَصْلَحَةِ
الْعُلْيَا وَذَلِكَ هُوَ شَأْنُ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ بَيَانُهُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قُتِلَ انْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْإِيمَانِ وَبَابُ مَقَامِ سَعَادَةِ الْجِنَانِ وَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالْخُلُودُ فِي النِّيرَانِ وَغَضَبُ الدَّيَّانِ فَشَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِزْيَةَ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَزْمَانِ لَا سِيَّمَا مَعَ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِلْجَاءِ إلَيْهِ بِالذُّلِّ وَالصَّغَارِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ.
فَإِذَا أَسْلَمَ لَزِمَ مِنْ إسْلَامِهِ إسْلَامُ ذُرِّيَّتِهِ فَاتَّصَلَتْ سِلْسِلَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِهِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَلَمْ يُسْلِمْ فَنَحْنُ نَتَوَقَّعُ إسْلَامَ ذُرِّيَّتِهِ الْمُخَلَّفِينَ مِنْ بَعْدِهِ وَكَذَلِكَ يَحْصُلُ التَّوَقُّعُ مِنْ ذُرِّيَّةِ ذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَاعَةً مِنْ إيمَانٍ تَعْدِلُ دَهْرًا مِنْ كُفْرٍ وَكَذَلِكَ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَأَكْثَرُ ذُرِّيَّتِهِ كُفَّارٌ وَعَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْقَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبَرَكَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَعْظِيمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ فِي تَعْظِيمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَمَّا سَاقَ تَعْظِيمَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَفْضَلُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ تَابَ عَلَيْهِ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ» فَجَعَلَ خَلْقَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ جُمْلَةِ فَضَائِلِهِ لِأَنَّ خَلْقَهُ سَبَبُ وُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَالصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ الْمِئُونَ مِنْ الْكُفَّارِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُسْلِمِ الْوَاحِدِ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ فَيَخْرُجُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَيَبْقَى مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ وَالْبَقِيَّةُ كُفَّارٌ» فَجَازَ أَهْلُ النَّارِ وَالْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ تَرْبَى مَصْلَحَةُ إسْلَامِهِ عَلَى مَفْسَدَةِ أُولَئِكَ وَأَنَّهُمْ كَالْعَدَمِ الصِّرْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا إيمَانٌ يُتَوَقَّعُ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ مِنْ آحَادِ الذَّرَارِيِّ لَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْوَاقِعِ مِنْ غَيْرِهِ فَعَقْدُ الْجِزْيَةِ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ الشَّرَائِعِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ.
وَلَمْ تُؤْخَذْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْكُفَّارِ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْهُ بَلْ لِتَوَقُّعِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ بِالْتِزَامِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ الْحَقِيرَةِ بِخِلَافِ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى مُدَاوَمَةِ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ لِلْمَصْلَحَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي هِيَ الدَّرَاهِمُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْعَظِيمَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQمَصَارِيفِ بَيْتِ الْمَالِ.
اهـ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَوْلَى أَبَا السُّعُودِ أَدْرَى بِحَالِ أَوْقَافِ الْمُلُوكِ وَمِثْلُهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَلِذَا لَمَّا أَرَادَ السُّلْطَانُ نِظَامُ الْمَمْلَكَةِ بُرْقُوقٌ فِي عَامِ نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ أَنْ يَنْقُضَ هَذِهِ الْأَوْقَافَ لِكَوْنِهَا أُخِذَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَعَقَدَ لِذَلِكَ مَجْلِسًا حَافِلًا حَضَرَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ وَالْبُرْهَانُ بْنُ جَمَاعَةَ وَشَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّينِ شَارِحُ الْهِدَايَةِ فَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ مَا وُقِفَ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَالطَّلَبَةِ لَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ لِأَنَّ لَهُمْ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا وُقِفَ عَلَى فَاطِمَةَ وَخَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ يُنْقَضُ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيّ فِي النَّقْلِ الْمَسْتُورِ فِي جَوَازِ قَبْضِ مَعْلُومِ الْوَظَائِفِ بِلَا حُضُورٍ وَرَأَيْت نَحْوَهُ فِي شَرْحِ الْمُلْتَقَى فَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ أَوْقَافَ السَّلَاطِينِ مِنْ بَيْتِ الْمَال إرْصَادَاتٌ لَا أَوْقَافٌ حَقِيقَةً وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَالِ لَا يُنْقَضُ بِخِلَافِ مَا وَقَفَهُ السُّلْطَانُ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ عُتَقَائِهِ مَثَلًا وَأَنَّهُ حَيْثُ كَانَتْ إرْصَادًا لَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ شُرُوطِهَا لِعَدَمِ كَوْنِهَا وَقْفًا صَحِيحًا فَإِنَّ شَرْطَ صِحَّتِهِ مِلْكُ الْوَاقِفِ وَالسُّلْطَانُ بِدُونِ الشِّرَاءِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَمْلِكُهُ وَمَا فِي التُّحْفَةِ الْمَرْضِيَّةِ عَنْ الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ مِنْ أَنَّ وَقْفَ السُّلْطَانِ لِأَرْضِ بَيْتِ الْمَالِ صَحِيحٌ لَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَازِمٌ لَا يُغَيَّرُ إذَا كَانَ عَلَى مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ كَمَا نَقَلَ الطَّرَسُوسِيُّ عَنْ قَاضِي خَانْ مِنْ أَنَّ السُّلْطَانَ لَوْ وَقَفَ أَرْضًا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ لِأَنَّهُ إذَا أَبَّدَهُ عَلَى مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ مَنَعَ مَنْ يَصْرِفُهُ مِنْ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ فِي غَيْرِ مَصْرِفِهِ.
اهـ فَقَدْ أَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْوَقْفِ تَأْبِيدُ صَرْفِهِ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا السُّلْطَانُ مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ وَهُوَ مَعْنَى الْإِرْصَادِ السَّابِقِ فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
اهـ بِتَصَرُّفٍ قُلْت وَهُوَ يُخَالِفُ مَا لِلْأَصْلِ مِنْ جِهَتَيْنِ جِهَةٌ أَنَّ كَلَامَ الْأَصْلِ يُفِيدُ أَنَّ مُقْتَضَى ظَاهِرِ مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ ابْنِ رُشْدٍ وَمَا لِلشَّافِعِيَّةِ مِنْ جَوَازِ وَقْفٍ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ صِحَّةُ وَقْفِهِ وَمُرَاعَاةُ شَرْطِهِ وَكَلَامُ ابْنِ عَابِدِينَ يُفِيدُ أَنَّ صَرِيحَ مَا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْأَحْنَافِ عَدَمُ صِحَّةِ الْوَقْفِ وَأَنَّهُ لَا

الصفحة 10