كتاب الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (اسم الجزء: 3)

حُجَّتُنَا عَلَى الْفِرَقِ كُلِّهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ التَّحْرِيمَ أَصْلًا فِي الْحَدِيثِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْجِنْسِ لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ فَتَعَيَّنَ الْمِقْدَارُ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ أَقْوَاتُهُمْ بِالْحِجَازِ فَالْبُرُّ لِلرَّفَاهِيَةِ فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَقِيلَ الْمُرَادُ قُوتُ الرَّفَاهِيَةِ فَذَكَرَ الشَّعِيرَ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى قُوتِ الشِّدَّةِ، وَذَكَرَ التَّمْرَ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى الْمُقْتَاتِ مِنْ الْحَلَاوَاتِ كَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ، وَذَكَرَ الْمِلْحَ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى مُصْلِحِ الْأَقْوَاتِ وَاشْتَرَكَتْ كُلُّهَا فِي الِاقْتِيَاتِ وَالِادِّخَارِ وَالطَّعْمِ وَهِيَ صِفَاتُ شَرَفٍ يُنَاسِبُ أَنْ لَا يُبَدَّلَ الْكَثِيرُ مِنْ مَوْصُوفِهَا بِالْقَلِيلِ مِنْهُ صَوْنًا لِلشَّرِيفِ عَنْ الْغَبْنِ فَيَذْهَبُ الزَّائِدُ هَدَرًا؛ وَلِأَنَّ الشَّرَفَ يَقْتَضِي كَثْرَةَ الشُّرُوطِ وَتَمْيِيزَهُ عَنْ الْخَسِيسِ كَتَمْيِيزِ النِّكَاحِ عَنْ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالشُّرُوطِ كَالْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَالصَّدَاقِ وَالْإِعْلَانِ، وَكَذَلِكَ الْمُلُوكُ لَا تَكْثُرُ الْحُرَّاسُ إلَّا عَلَى الْخَزَائِنِ النَّفِيسَةِ فَكُلَّمَا عَظُمَ شَرَفُ الشَّيْءِ عَظُمَ خَطَرُهُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعَادَةً وَجَازَ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسَيْنِ وَإِهْدَارُ الزَّائِدِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَفْقُودِ وَامْتَنَعَ النَّسَاءُ إظْهَارًا لِشَرَفِ الطَّعَامِ، فَيَكُونُ لِلطَّعَامِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ وَلِلْمُقْتَاتِ مِنْهُ شَرَفٌ عَلَى غَيْرِ الْمُقْتَاتِ لِعِظَمِ مَصْلَحَتِهِ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَهُوَ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَبْنِيَةِ الشَّرِيفَةِ لِطَاعَةِ اللَّهِ مَعَ طُولِ الْأَزْمَانِ فَنَاسَبَ جَمِيعُ ذَلِكَ الصَّوْنَ عَنْ الضَّيَاعِ بِأَنْ لَا يُبَدِّلَ كَثِيرُهَا تَقْلِيلَهَا فَيَضِيعُ الزَّائِدُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.
وَهَذَا أَيْضًا سَبَبُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا رُءُوسُ الْأَمْوَالِ وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ، وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ شَرَفًا بِذَلِكَ عَنْ بَذْلِ الْكَثِيرِ فِي الْقَلِيلِ فَيَضِيعُ الزَّائِدُ فَشَدَّدَ فِيهِمَا فَشُرِطَ التَّسَاوِي وَالْحُضُورُ وَالتَّنَاجُزُ فِي الْقَبْضِ، وَتَعْلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْكَيْلِ طَرْدِيٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْمُنَاسِبُ وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ بِالطَّعْمِ دَاخِلٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ مُهْمَلٌ لِبَعْضِ الْمُنَاسِبِ بِخِلَافِنَا، بَلْ أَهْمَلَ أَفْضَلَ الْأَوْصَافِ وَهُوَ الِاقْتِيَاتُ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ إلَّا مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُعْرَفُ بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ وَهِيَ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا وَرَدَ مَقْرُونًا بِأَوْصَافٍ فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مُنَاسِبَةً كَانَ الْجَمِيعُ عِلَّةً أَوْ بَعْضُهَا كَانَ عِلَّةً وَاحِدَةً فَأَسْعَدُ النَّاسِ أَرْجَحُهُمْ تَخْرِيجًا، وَعِلَّةُ مَالِكٍ أَرْجَحُ لِسَبْعَةِ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا أَنَّهَا صِفَةٌ ثَابِتَةٌ وَالْكَيْلُ عَارِضٌ وَأَنَّهَا صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ وَالْكَيْلُ وَغَيْرُهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ وَأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ عَادَةً مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَغَيْرِهَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنَّهَا جَامِعَةٌ لِلْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ كُلِّهَا وَأَنَّهَا سَابِقَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَالْكَيْلُ لَاحِقٌ مُخَلِّصٌ مِنْ الرِّبَا كَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ وَأَنَّهَا جَامِعَةٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَمَا فِي النَّقْدَيْنِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَحَكَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُمْدَةُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَمِلَ سُلْفَةً بِالْمَدِينَةِ وَعُمْدَةُ أَصْحَابِهِ فِيهِ أَوَّلًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطَّعَامُ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَالطَّعَامُ يَتَنَاوَلُ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ وَثَانِيًا أَنَّهُمْ عَدَّدُوا كَثِيرًا مِنْ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَنَافِعِ وَالْمُتَّفِقَةُ الْمَنَافِعِ لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا بِاتِّفَاقٍ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُمَا صِنْفَانِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعُمْدَتُهُمْ أَوَّلًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» فَجَعَلَهُمَا صِنْفَيْنِ لَا سِيَّمَا وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٌ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَصَحَّحَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ التِّرْمِذِيُّ وَثَانِيًا قِيَاسُهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا شَيْئَانِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُمَا وَمَنَافِعُهُمَا عَلَى الْفِضَّةِ وَالذَّهَبُ وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الِاسْمِ وَالْمَنْفَعَةِ فَكَمَا وَجَبَ كَوْنُ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَنَحْوِهِمَا بِذَلِكَ صِنْفَيْنِ كَذَلِكَ وَجَبَ كَوْنُ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِذَلِكَ صِنْفَيْنِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْقُطْنِيَّةَ وَهِيَ الْعَدَسُ وَاللُّوبِيَا وَالْحِمَّصُ وَالْفُولُ وَالتُّرْمُسُ وَالْجُلُبَّانُ وَالْبِسِلَّةُ عِنْدَ مَالِكٍ صِنْفٌ وَاحِدٌ فِي الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُجَانَسَةُ الْقَبْلِيَّةُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا تَقَارُبُ الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْعَيْنُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الزَّكَاةِ وَهُمَا جِنْسَانِ فِي الْبَيْعِ، وَعَنْهُ فِي الْبُيُوعِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا قَوْلُهُ الثَّانِي أَنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ وَالْأُخْرَى قَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا أَصْنَافٌ وَسَبَبُ الْخِلَافِ تَعَارُضُ اتِّفَاقِ الْمَنَافِعِ فِيهَا وَاخْتِلَافُ أَعْيَانِهَا فَمَنْ غَلَّبَ الِاتِّفَاقَ قَالَ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَمَنْ غَلَّبَ الِاخْتِلَافَ قَالَ صِنْفَانِ أَوْ أَصْنَافٌ قَالَ الْحَطَّابُ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُتَبَايِنَةٌ يَجُوزُ الْفَضْلُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ لِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا وَأَسْمَائِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا وَمَنَافِعِهَا وَعَدَمِ اسْتِحَالَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي اخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ إلَى الْعُرْفِ وَهِيَ فِي الْعُرْفِ أَجْنَاسٌ، وَقِيلَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ الثَّانِي فِي الْبُيُوعِ (وَمِنْهَا) أَنَّ الْأَرُزَّ وَالدُّخْنَ وَالذُّرَةَ عِنْدَ مَالِكٍ صِنْفٌ وَاحِدٌ كَمَا فِي الْبِدَايَةِ وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ يَجُوزُ الْفَضْلُ بَيْنَهَا (وَمِنْهَا) أَنَّ التَّمْرَ بِأَصْنَافِهِ كُلِّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ الزَّيْتُ بِأَصْنَافِهِ كُلِّهَا (وَمِنْهَا) أَنَّ اللُّحُومَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ الْآخَرُ يُوَافِقُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا إلَّا فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ اللُّحُومُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مُخْتَلِفَةٍ

الصفحة 262