كتاب الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (اسم الجزء: 3)

يَقُولَ الْإِمَامُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فَإِنَّ التَّوَقُّفَ عَلَى شَرْطٍ أَبْعَدُ عَنْ التَّخْصِيصِ مِنْ الْإِخْرَاجِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَكَانَ تَقْلِيلُ التَّخْصِيصِ وَإِبْعَادُهُ أَوْلَى وَثَانِيهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ النِّيَّاتِ وَأَنْ يُقَاتِلَ الْإِنْسَانُ مَنْ عَلَيْهِ سَلَبٌ طَمَعًا فِي سَلَبِهِ لَا نُصْرَةً لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبَّمَا أَوْقَعَ ذَلِكَ خَلَلًا عَظِيمًا فِي الْجَيْشِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْهَزِيمَةِ وَاسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَكُونَ الشُّجْعَانُ قَلِيلِينَ فِي التَّزَيُّنِ وَاللِّبَاسِ وَالْعَجَزَةُ وَالْجُبَنَاءُ هُمْ الْمُتَحَصَّنُونَ بِأَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ فَيَشْتَغِلُ النَّاسُ بِهِمْ عَنْ الشُّجْعَانِ رَغْبَةً فِي لِبَاسِهِمْ فَيَسْتَوْلِي شُجْعَانُ الْأَعْدَاءِ عَلَى أَبْطَالِ الْمُسْلِمِينَ وَجَيْشِهِمْ فَيَهْلِكُونَ ثُمَّ إنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ بَلْ الْعِقَابُ الْأَلِيمُ بِسَبَبِ الْمَقَاصِدِ الرَّدِيَّةِ.
وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ فَلَا يُسْتَكْثَرُ مِنْهُ فَإِذَا جُعِلَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ انْدَفَعَتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ فِي الْجَيْشِ بَعِيدِينَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَإِلَّا لَمْ يَقُلْ فَتُدْفَعُ الْمَفَاسِدُ وَإِنَّمَا يَأْتِي إذَا جَعَلْنَاهُ فُتْيَا عَامَّةً فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَثَالِثُهَا أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالْحَدِيثُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ أَخَصَّ مِنْ الْآيَةِ حَتَّى يُخَصِّصَهَا لِتَنَاوُلِ لَفْظِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى مَا غَنِمْتُمْ الْغَنِيمَةَ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً الْغَنِيمَةُ صَادِقَةٌ لُغَةً عَنْ الْغَارَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَحْوِهَا وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» يَتَنَاوَلُ لُغَةً الْغَنِيمَةَ وَغَيْرَهَا حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ غِيلَةً فِي بَيْتِهِ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ غَيْرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْجِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَحِينَئِذٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ وَالتَّخْصِيصُ وَالْعُمُومُ إنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيه اللَّفْظُ لُغَةً وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ مِنْ وَجْهٍ لَا يَخُصُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِحُصُولِ التَّعَارُضِ فَيُصَارُ لِلتَّرْجِيحِ وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرٌ فَيَكُونُ أَرْجَحَ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْخَبَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ ذَلِكَ يُسْتَحَقُّ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ وَرَابِعُهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تَرَكَا ذَلِكَ فِي خِلَافَتِهِمَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فُتْيَا لَمَا تَرَكَاهَا بَلْ عَلِمَا أَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِطَرِيقِ الْإِمَامَةِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ.
وَلَمْ يَرَيَا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ حِينَئِذٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَمْ يَقُولَا بِهِ فَهَذِهِ وُجُوهٌ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لَأَنْ يُخَالِفَ أَصْلَهُ لَهَا

(الْفَرْقُ السَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ عَلَى التَّمَادِي عَلَى الْكُفْرِ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ أَخْذِ الْأَعْوَاضِ عَلَى التَّمَادِي عَلَى الزِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا)
وَقَدْ أَوْرَدَهُ بَعْضُ الطَّاعِنِينَ فِي الدِّينِ سُؤَالًا فِي الْجِزْيَةِ فَقَالَ شَأْنُ الشَّرَائِعِ دَفْعُ أَعْظَمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQمَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ وَلِلْإِمَامِ وَقْفُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَأَمَّا إذَا اشْتَرَوْا بَعْضَ أَرَاضِيِ الْمُسْلِمِينَ وَقُرَاهُمْ مِنْ مَالِهِمْ الَّذِي يَكْتَسِبُونَهُ فِي زَمَنِ مَمْلَكَتِهِمْ وَوَقَفُوا ذَلِكَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِمْ فَإِنَّهُ يَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي بُطْلَانِ تَبَرُّعَاتِ الْمَدْيُونِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ تَقَرُّرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَعَدَمُ بُطْلَانِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ غَيْرِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُلُوكَ بِسَبَبِ اسْتِغْرَاقِ ذِمَمِهِمْ بِالدُّيُونِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَا يَجْنُونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِالْهَوَى فِي أَبْنِيَةِ الدُّورِ الْعَالِيَةِ الْمُزَخْرَفَةِ وَالْمَرَاكِبِ النَّفِيسَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَإِعْطَاءِ الْأَصْدِقَاءِ وَالْمُزَاحِ بِالْبَاطِلِ مِنْ أَمْوَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا شَرْعًا فَتَكُونُ دُيُونًا عَلَيْهِمْ وَتَكْثُرُ بِتَطَاوُلِ الْأَيَّامِ يَتَعَذَّرُ فِي حَقِّهِمْ أَمْرَانِ
(أَحَدُهُمَا) الْأَوْقَافُ وَالتَّبَرُّعَاتُ وَالْبُيُوعَاتُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَنْ وَافَقَهُ فَإِنَّ تَبَرُّعَاتِ الْمَدْيُونِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ تَقَرُّرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بَاطِلَةٌ
(وَثَانِيهِمَا) الْإِرْثُ لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ مَعَ الدَّيْنِ إجْمَاعًا فَلَا يُورَثُ عَنْهُ شَيْءٌ وَمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْمَمَالِيكِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْوَارِثِ فِيهِمْ بَلْ هُمْ أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَحَقُّونَ بِسَبَبِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا يَنْفُذُ فِيهِمْ إلَّا عِتْقُ مُتَوَلِّي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ اهـ بِتَصَرُّفٍ لِلْإِصْلَاحِ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ عَابِدِينَ الْحَنَفِيِّ عَلَى الدُّرِّ أَنَّ أَوْقَافَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ إنْ عُلِمَ مِلْكُهُمْ لَهَا بِالشِّرَاءِ صَحَّ وَقْفُهُمْ لَهَا وَرُوعِيَ فِيهِ شَرْطُ الْوَقْفِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ شِرَاؤُهُمْ لَهَا وَلَا عَدَمُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ وَقْفِهَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَقْفِهِمْ لَهَا مِلْكُهُمْ لَهَا بَلْ يَحْكُمُ بِأَنَّ ذَلِكَ السُّلْطَانَ الَّذِي وَقَفَهَا أَخْرَجَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَعَيَّنَهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالطَّلَبَةِ وَنَحْوِهِمْ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى وُصُولِهِمْ إلَى بَعْضِ حَقِّهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَهُوَ إرْصَادٌ لَا وَقْفٌ حَقِيقَةً فَلِهَذَا أَفْتَى عَلَّامَةُ الْوُجُودِ الْمَوْلَى أَبُو السُّعُودِ مُفْتِي السَّلْطَنَةِ السُّلَيْمَانِيَّةِ بِأَنَّ أَوْقَافَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ لَا يُرَاعَى شَرْطُهَا لِأَنَّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ تَرْجِعُ إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ إذَا كَانَ الْمُقَرَّرُ فِي الْوَظِيفَةِ أَوْ الْمُرَتَّبِ مِنْ

الصفحة 9