كتاب الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (اسم الجزء: 3)

الْفِعْلِ فَقَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ هَيْئَةِ الْفَاعِلِ وَأَحْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ مَعَ خَالِقِهِ وَمَعْبُودِهِ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى قَالَ رُوَيْمٌ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اجْعَلْ عَمَلَك مِلْحًا وَأَدَبَك دَقِيقًا.
أَيْ اسْتَكْثِرْ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى تَكُونَ نِسْبَتُهُ فِي الْكَثْرَةِ نِسْبَةَ الدَّقِيقِ إلَى الْمِلْحِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَدَبِ مَعَ قَلِيلٍ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ قِلَّةِ الْأَدَبِ وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ كَمَا يَتَأَدَّبُوا مَعَ أَمَاثِلِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُمْكِنُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ وَلَا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلَمَّا كَانَ الْأَدَبُ مَعَ الْمُلُوكِ أَعْظَمَ نَفْعًا لِفَاعِلِهِ وَأَجْدَى عَلَيْهِ مِنْ كَثِيرِ الْخِدْمَةِ مَعَ قِلَّةِ الْأَدَبِ كَانَ الْوَاقِعُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ صِدْقُ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَفِي مُعَامَلَةِ الْمُلُوكِ وَلَمَّا عَظُمَ هَذَا الْمَعْنَى جُعِلَ هُوَ سَبَبَ الْوُجُودِ بَدَلًا مِنْ الْمَصَالِحِ فِي نَفْسِ الْأَفْعَالِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ لَك أَنَّ النُّذُورَ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ زَيْنِك الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ رَجَعَتْ إلَى الْقَوَاعِدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَارَتْ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَا عَرَى الْوُجُوبُ عَنْ مَصْلَحَةٍ تُنَاسِبُهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَيْضًا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْذُورَاتِ وَالشُّرُوطِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَدَارِكَهَا غَيْرُ مَدَارِكِ الْأَسْبَابِ وَالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ مَصَالِحُ غَيْرُ مَصَالِحِ أَنْفُسِ الْأَفْعَالِ.

(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِسَبَبِهِ)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمُتَنَاوَلَاتِ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَهُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ تُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ فَيَحْرُمُ أَوْ الْكَرَاهَةَ فَيُكْرَهُ فَالْأَوَّلُ كَالسُّمُومِ تَحْرُمُ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهَا وَالثَّانِي سِبَاعُ الطَّيْرِ أَوْ الضَّبُعِ مِنْ الْوَحْشِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَقِسْمٌ يُبَاحُ لِصِفَتِهِ إمَّا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ كَالْبُرِّ وَاللَّحْمِ الطَّيِّبِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَإِمَّا لِعَدَمِ مَفْسَدَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْعَالَمِ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ وَيُمْكِنُ تَنْظِيرُهُ بِأَكْلِ شَعْرَةٍ مِنْ قُطْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي جَسَدِ ابْنِ آدَمَ وَإِذَا كَانَتْ الْمَوْجُودَاتُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إمَّا حَرَامٌ لِصِفَتِهِ أَوْ مُبَاحٌ لِصِفَتِهِ انْبَنَى عَلَى هَذَا قَاعِدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا حَرُمَ لِصِفَتِهِ لَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهِ وَمَا يُبَاحُ لِصِفَتِهِ لَا يَحْرُمُ إلَّا بِسَبَبِهِ
(فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ) كَالْمَيْتَةِ حُرِّمَتْ لِصِفَتِهَا وَهِيَ اشْتِمَالُهَا عَلَى الْفَضَلَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ فَلَا تُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهَا وَهُوَ الِاضْطِرَارُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ حَرُمَ لِصِفَتِهِ وَهُوَ الْإِسْكَارِ فَلَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهِ وَهُوَ الْغُصَّةُ
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) كَالْبُرِّ وَلُحُومِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ أُبِيحَتْ لِصِفَاتِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ فَلَا تَحْرُمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَبِيهَا نِكَاحَهَا لِغَيْرِك وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ مِنْ أَيْسَرِ الْأَسْبَابِ وَالْمَبْتُوتَةُ لَا يَذْهَبُ تَحْرِيمُهَا إلَّا بِعَقْدِ الْمُحَلِّلِ وَوَطْئِهِ ثُمَّ عَقْدُ الْبَاتِّ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَهَذِهِ رُتْبَةٌ فَوْقَ تِلْكَ الرُّتْبَةِ النَّاقِلَةِ عَنْ الْإِبَاحَةِ بِكَثِيرٍ
(وَمِنْهَا) الْمُسْلِمُ مُحَرَّمُ الدَّمِ وَلَا تَذْهَبُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ إلَّا بِالرِّدَّةِ أَوْ زِنَى بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ عَمْدًا عُدْوَانًا أَوْ حِرَابَةٍ وَهِيَ أَسْبَابٌ عَظِيمَةٌ فَإِذَا أُبِيحَ دَمُهُ بِالرِّدَّةِ حَرُمَ بِالتَّوْبَةِ أَوْ أُبِيحَ بِقَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ حَرُمَ بِالْعَفْوِ أَوْ أُبِيحَ بِزِنًى بَعْدَ الْإِحْصَانِ حَرُمَ بِالتَّوْبَةِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا بُدَّ مِنْ رَجْمِهِ وَلَوْ تَابَ أَوْ أُبِيحَ بِالْحِرَابَةِ حَرُمَ بِتَوْبَتِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِقَوْلِ الْأَصْلِ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِيمَا عَلِمْت عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارِبِ الْحَدُّ وَتَزُولُ إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا تَابَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَالتَّوْبَةُ أَيْسَرُ مِنْ الْقَتْلِ
(وَمِنْهَا) الْأَجْنَبِيَّةُ لَا يَزُولُ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا إلَّا بِالْعَقْدِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى إذْنِهَا وَوَلِيِّهَا وَصَدَاقٍ وَشُهُودٍ وَيَكْفِي فِي إبَاحَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ الطَّلَاقُ فَتَرْتَفِعُ تِلْكَ الْإِبَاحَةُ بِالطَّلَاقِ الَّذِي يَسْتَقِلُّ الزَّوْجُ بِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ
(وَمِنْهَا) الْحَرْبِيُّ مُبَاحُ الدَّمِ وَتَزُولُ إبَاحَتُهُ بِالتَّأْمِينِ وَهُوَ سَبَبٌ لَطِيفٌ وَإِذَا حَرُمَ دَمُهُ بِالتَّأْمِينِ لَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبٍ قَوِيٍّ يُزِيلُ تِلْكَ الْإِبَاحَةِ مِنْ خُرُوجٍ عَلَيْنَا أَوْ قَصْدٍ لِقَتْلِنَا حِرَابَةً وَخُرُوجًا عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ وَكَذَلِكَ تَزُولُ إبَاحَةُ دَمِهِ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ فَإِذَا حَرُمَ دَمُهُ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ لَا يُبَاحُ دَمُهُ بِكُلِّ الْمُخَالَفَاتِ لِعَقْدِ الْجِزْيَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُخَالَفَةٍ قَوِيَّةٍ كَالتَّمَرُّدِ عَلَى الْإِمَامِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ مُجَاهَرَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحْتَاجَةِ إلَى قُوَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمُنَاقَشَةٍ عَظِيمَةٍ وَنَظَائِرُ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ أَعْنِي الْخُرُوجَ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى التَّحْرِيمِ وَالْخُرُوجَ مِنْ التَّحْرِيمِ إلَى الْإِبَاحَةِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَكِنْ عَدَّ الْأَصْحَابُ مِنْهَا الْحِنْثَ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ وَعَدَمِ الْبِرِّ إلَّا بِجَمِيعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ وَتَخْرِيجِهِ عَلَى قَاعِدَتَيْهَا بِجَعْلِ الْحِنْثِ خُرُوجًا مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى التَّحْرِيمِ فَيَكْفِي فِيهِ أَيْسَرُ سَبَبٍ فَيَحْنَثُ بِجُزْءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ مِنْهُ لُبَابَهُ لِأَنَّهُ عَلَى بِرٍّ وَإِبَاحَةٍ حَتَّى يَحْنَثَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ إبَاحَةٍ إلَى حُرْمَةٍ

الصفحة 96