كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 3)

«للأصيد (¬1) الجواد، الوارى الزناد (¬2)، الماجد الأجداد، الوزير الفاضل، الأشمّ (¬3) الباذل، اللّباب الحلاحل (¬4)، من المستكين المستجير، البائس الضرير فإنى أحمد الله ذا العزة القدير، إليك وإلى الصغير والكبير، بالرحمة العامة، والبركة التامة. أما بعد فاغنم واسلم، واعلم إن كنت تعلم، أنه من يرحم يرحم، ومن يحرم يحرم، ومن يحسن يغنم، ومن يصنع المعروف لا يعدم (¬5)، وقد سبق إلىّ، تغضّيك علىّ، واطراحك لى، وغفلتك عنى، بما لا أقوم، له ولا أقعد، ولا أنتبه ولا أرقد، فلست بحىّ صحيح، ولا بميت مستريح، فررت بعد الله منك إليك، وتحملت بك عليك، ولذلك قلت:
أسرعت بى حثّا إليك خطائى … فأناخت بمذنب ذى رجاء (¬6)
راغب راهب إليك يرجّى … منك عفوا عنه وفضل عطاء
ولعمرى ما من أصرّ ومن تا … ب مقرّا بذنبه بسواء
فإن-رأيت-أراك الله ما تحبّ، وأبقاك فى خير-أن لا تزهد فيما ترى من تضرّعى، وتخشّعى، وتذللى، وتضعّفى، فإن ذلك ليس منى بنحيزة (¬7)، ولا طبيعة، ولا على وجه تصيّد تصنّع، وتخدّع (¬8)، ولكنه تذلل، وتخشع، وتضرع من غير ضارع (¬9) ولا مهين ولا خاشع لمن لا يستحق ذلك إلا لمن التضرع له عزّ ورفعة وشرف»
وما إن تلاها يحيى حتى عفا عن جرمه، ورضى عنه ووصله. ويقول الجاحظ إن عامة أهل بغداد كانوا يحفظون هذه الرسالة، إعجابا ببلاغتها، وهى بلاغة تردّ إلى ما أجرى فيها ابن سيابة من هذا السجع الرشيق الذى يدل بوضوح على أن العبارات كانت طيعة على لسانه، بحيث يتصرف فيها كما يريد دون أن
¬_________
(¬1) الأصيد: السيد الرافع رأسه أنفة وشمما.
(¬2) وارى الزناد: أصله مخرج النار منه، وهو كناية عن مضاء العزيمة.
(¬3) الأشم: المملوء أنفة.
(¬4) الحلاحل: السيد الشجاع ذو المروءة.
(¬5) لا يعدم: يريد لا يعدم مكافأته.
(¬6) حثا: مسرعة. خطائى: جمع خطوة أناخت: بركت وأقامت.
(¬7) نحيزة: طبيعة.
(¬8) تخدع: خداع.
(¬9) ضارع: ذليل.

الصفحة 495