كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 3)

يستعصى عليه منها شئ، حتى مع ما اختاره لها من ممرّات السجع ودروبه الضيقة.
ومن الشعراء الذين جمعوا بين براعتهم فى الشعر والكتابة الإخوانية العتّابى، وقد ترجمنا له بين شعراء العصر النابهين وكانت قدرته فى الكتابة لا تقل عن قدرته فى الشعر، وكان يعمد فيهما جميعا إلى الإيجاز وأن يروع السامع بمعانيه كما يروعه بأساليبه، ومما يصوّر ذلك فى كتابته ما كتب به إلى صديق انتجعه فى أيام شحيحة مجدبة، على هذه الشاكلة (¬1)
«أما بعد أطال الله بقاءك وجعله يمتدّ بك إلى رضوانه والجنة، فإنك كنت عندنا روضة من رياض الكرم تبتهج النفوس بها، وتستريح القلوب إليها، وكنا نعفيها من النّجعة (¬2) استتماما لزهرتها، وشفقة على خضرتها، وادخارا لثمرتها، حتى أصابتنا سنة كانت عندى قطعة من سنى يوسف، اشتدّ علينا كلبها (¬3)، وغابت قطّتها (¬4)، وكذبتنا غيومها، وأخلفتنا بررقها، وفقدنا صالح الإخوان فيها، فانتجعتك (¬5)، وأنا بانتجاعى إياك شديد الشفقة عليك، مع علمى بأنك موضع الرائد (¬6)، وأنك تغطّى عين الحاسد. والله يعلم أنى ما أعدّك إلا فى حومة (¬7) الأهل. واعلم أن الكريم إذا استحيى من إعطاء القليل ولم يمكنه الكثير لم يعرف جوده ولم تظهر همته، وأنا أقول فى ذلك:
إذا تكرّهت من بذل القليل ولم … تقدر على سعة لم يظهر الجود
بثّ النّوال ولا تمنعك قلّته … فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود»
ويقال إنه بلغ من تأثيره فى صديقه حين قرأ هذه الرسالة الرقيقة أن شاطره ماله حتى أعطاه إحدى نعليه ونصف قيمة خاتمه. وعلى نحو ما كان يقصد فى أشعاره إلى المعانى الدقيقة الطريفة يصوغها فى مقطوعات قلما تجاوزت بيتين
¬_________
(¬1) الأمالى 2/ 137.
(¬2) النجعة: الاستمناح، وأصلها طلب الكلأ.
(¬3) كلبها: سوءها وقحطها.
(¬4) كناية عن الجدب، فالقطة لا تجد ما تأكل.
(¬5) انتجعتك: طلبت نائلك ومعروفك.
(¬6) الرائد: الذى يتقدم القوم فى طلب العشب.
(¬7) حومة: موضع.

الصفحة 496