كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 3)

وتربط متشرده، وتنظم أشطاره، وتجلو أنواره، وتفصّله فى حدوده، وتخرجه فى قيوده. ثم لا تأتى به مهما اقتبسته مشتركا فيلبس، ولا متعقّدا فيطول، ولا متكلفا فيحول، فهو كالمعجزة تضرب بها الأمثال، ويشرح فيها المقال، فلا أعدمنا الله هداياك واردة وفرائدك وافدة».
وهذه الرسائل الإخوانية التى كانوا يصورون بها عواطفهم ومشاعرهم من ثناء أو هجاء أو استمناح أو استعطاف أو عتاب أو عزاء أو تهنئة أو تهاد دفعهم تفننهم فى بعضها إلى أن يتحولوا بها إلى ما يشبه الرسائل الأدبية الخالصة، وهى التى تتناول خصال النفس الإنسانية وتصور أهواءها وأخلاقها وتوضح لها طريقها إلى الخير، حتى لا تسقط فى مهاوى الشر. ومن خير ما يصور ذلك رسالة يحيى بن زياد التى ردّ بها على رسالة لابن المقفع طلب إليه فيها أن تنعقد بينهما أسباب الأخوة والوداد، وهو يستهلها على هذه الشاكلة (¬1):
«أما بعد فإنا لما رأينا موضع الإخاء ممن يحتمله فى تأنيسه من الوحشة وتقريبه لذى البعدة ومشاركته بين ذوى الأرحام فى القربة لم نرض بمعرفة عينه دون معرفة نسبته، فنسبنا الإخاء فوجدناه فى نسبته لا يستحق اسم الإخاء إلا بالوفاء، فلما انتقلنا عنه إلى الوفاء فنسبناه انتسب لنا إلى البرّ، فوجدناه محتويا على الكرم والنّجدة والصدق والحياء والنّجابة والزّكانة (¬2) وسائر ما لا يأتى عليه العدد من المحامد، ثم انحدرنا فيما أصعدنا فيه من هذا النسب، فعدنا إلى الإخاء، فوجدناه لا يقوم به إلا من هذه الخصال كلها أخلاقه. ولما استوجب الإخاء مسالك المحمدة كلها رأينا أن نتخير له المواضع فى صواب التروّى وإحكام التقدير، وعلمنا أن الاحتباس به أحسن من الندم بعد بذله، واستوجب-إذ كان جماع المحامد-أن نتخيّر له محامله التى يحمل عليها، وكان الناس فيما احتسبنا به عنهم من الإخاء على صنفين، فصنف عذرونا بالتحبس للخير إذ كان التخير من شأنهم، وصنف هم ذوو سرعة إلى الإخاء، وسرعة فى الانتهاء، فقدّموا اللائمة، واستعجلوا بالمودة، وتركوا باب التّروية، واستحلوا عاجل المحبة،
¬_________
(¬1) جمهرة رسائل العرب 3/ 67.
(¬2) الزكانة: صدق الحس.

الصفحة 502