كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 3)

السياق. أما الأدب (¬1) الكبير فرسالة أكثر طولا إذ تمتد إلى نحو مائة صحيفة، موزعة بين موضوعين كبيرين، هما السلطان وما يتصل به من السياسة والحكم، والصداقة وما يتصل بها من صفات الصديق الصالح. ونراه يصرح فى تقديمه لهذه الرسالة بما صرّح به فى أوائل الأدب الصغير من أنه يفيد فى وصاياها من أقوال الأسلاف القدماء، إذ يقول: «منتهى علم عالمنا فى هذا الزمان أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسننا أن يقتدى بسيرتهم، وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر فى كتبهم، فيكون كأنه إياهم يحاور ومنهم يستمع. . .
ولم نجدهم غادروا شيئا يجد واصف بليغ فى صفة له مقالا لم يسبقوه إليه».
ويشير مع ذلك إلى أنه بقيت فى وجوه الأدب وضروب الأخلاق أشياء من لطائف الأمور تشتقها الفطن السليمة من حكم الأولين وأقوالهم، وأنه سيضمّن كتابه أو رسالته منها أطرافا. ومعنى ذلك أن وصايا الرسالة إما نقل عن القدماء ممّا قرأه فى الأدب الساسانى السياسى والأخلاقى، وإما استنباطات وصل إليها على هديهم، وهو يستهلّ رسالته بالحديث عن أصول الأدب ويريد به التهذيب الخلقى والاجتماعى والسياسى، ثم يورد بعض الوصايا لمن يتقلد شيئا من أمور السلطان وينصحه فيما يتولاه أن يرضى ربه ومن فوقه من أصحاب السلطان ومن تحته من صالحى الرعية، ويقول له: لا تلتمس رضا الناس جميعا، لأن ذلك شئ لا يدرك، إذ بينهم من رضاه الجور ومن رضاه الضلالة، فيكفيك رضا الأخيار منهم والعقلاء، ومن طريف ما يوصيه به قوله:
«لا تتركنّ مباشرة جسيم أمرك، فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزم نفسك مباشرة الصغير فيصير الكبير ضائعا، واعلم أن رأيك لا يتسع لكل شئ ففرّغه للمهم. . وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك وإن دأبت فيهما، وأنه ليس إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الدعة فأحسن قسمتهما (¬2) بين دعتك وعملك، واعلم أنك ما شغلت من رأيك فى غير المهم أزرى بالمهم. .
وما شغلت من ليلك ونهارك فى غير الحاجة أزرى بك فى الحاجة. واعلم أن من
¬_________
(¬1) انظره فى رسائل البلغاء ص 39 وما بعدها.
(¬2) قسمتهما. أى قسمة الليل والنهار.

الصفحة 513