كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 3)

الناس ناسا كثيرا يبلغ من أحدهم الغضب إذا غضب أن يحمله ذلك على الكلوح (¬1) والتقطيب فى غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته، وشدّة المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك. ثم يبلغ به الرضا إذا رضى أن يتبرّع بالأمر ذى الخطر (¬2) لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطى من لم يكن يريد إعطاءه ويكرم من لا حق له ولا مودة فاحذر هذا الباب الحذر كله».
ويسترسل ابن المقفع فى مثل هذه الوصايا للوالى، ويتحدث عن صحبة السلطان وواجباتها وآدابها وكذلك صحبة الولاة والحكّام، ثم ينتقل إلى الصديق والصداقة، ويصور الخلال التى ينبغى أن يتصف بها فى رأيه الصديق الحق حتى ليرى من واجب الصديق على الصديق أن يبذل له ماله ودمه وأن يلقاه بالتواضع والحياء وأن يمدّ له يد العون فى الشدة. ويستطرد إلى الحديث عن جار السوء وعشير السوء وجليس السوء، كما يستطرد إلى الحديث عن العدو وما ينبغى من استعمال الدهاء معه والعمل على القضاء عليه أو اجتنابه والبعد عنه، ويفيض فى الأخلاق الحميدة والأخلاق السيئة التى تنفّر الناس من صاحبها فضلا عن الصديق، ومما يسوقه فى الطرفين قوله:
«انظر من صاحبت من الناس من ذى فضل عليك بسلطان أو منزلة ومن دون ذلك من الخلصاء والأكفاء والإخوان فوطّن نفسك فى صحبته على أن تقبل منه العفو، وتسخو نفسك عما اعتاص عليك مما قبله غير معاتب ولا مستبطئ ولا مستزيد، فإن المعاتبة مقطعة للود، وإن الاستزادة من الجشع، وإن الرضا بالعفو والمسامحة فى الخلق مقرب لك كلّ ما تتوق إليه نفسك مع بقاء العرض والمودة والمروءة. . ولا تلتمس غلبة صاحبك والظفر عليه بكل كلمة ورأى، ولا تجترئن على تقريعه وتبكيته بظفرك إذا استبان وحجّتك إذا وضحت.
وتعلّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم، حتى يقضى حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم، والوعى لما يقول. . واعلم أن المستشار ليس بكفيل وأن الرأى ليس بمضمون، بل
¬_________
(¬1) الكلوح والتقطيب: العبوس.
(¬2) الخطر: الشرف.

الصفحة 514