كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 3)

الرأى كله غرر (¬1)، لأن أمور الدنيا ليس شئ منها بثقة، ولأنه ليس شئ من أمرها يدركه الحازم إلا وقد يدركه العاجز، بل ربما أعيى الحزمة (¬2) ما أمكن العجزة، فإذا أشار عليك صاحبك برأى فلم تجد عاقبته على ما كنت تأمل، فلا تجعل ذلك عليه لوما وعذلا بأن تقول: أنت فعلت هذا بى، وأنت أمرتنى، ولولا أنت لم أفعل، ولا جرم لا أطيعك فى شئ بعدها، فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة. وإن كنت أنت المشير، فعمل برأيك أو تركه فبدا صوابك فلا تمتنّ ولا تكثرنّ ولا تكثرنّ ذكره إن كان فيه نجاح، ولا تلمه عليه إن كان استبان فى تركه ضررا بأن تقول: ألم أقل، ألم أفعل، فإن هذا مجانب لأدب الحكماء. . واعلم أن من تنكّب الأمور ما يسمى حذرا، ومنه ما يسمى خورا فإن استطعت أن يكون تجنّبك من الأمر قبل مواقعتك إياه فافعل، فإن ذلك هو الحذر، ولا تنغمس فيه ثم تتهيبه، فإن ذلك هو الخور، وإن الحكيم لا يخوض نهرا، حتى يعلم مقدار قعره».
وردّد محمد كرد على فى نشرته للأدب الكبير بكتابه رسائل البلغاء بين هذا العنوان وعنوان ثان هو الدرة اليتيمة، وهما كتابان لا كتاب واحد، كما يشهد بذلك كلام الباقلانى عن اليتيمة الذى سبق أن نقلناه عنه، وفيه أنها قسمان قسم فى الحكم المنقولة، وقسم فى شئ من الديانات، وليس فى الأدب الكبير حديث عن الديانات، إنما هو حديث كما رأينا عن السلطان والصداقة. ومما يقطع بأن الدرة اليتيمة ليست هى الأدب الكبير أن ابن طيفور احتفظ فى كتابه «اختيار المنظوم والمنثور» بقطعة طويلة من صدرها لا توجد فى الأدب الكبير، ونرى ابن المقفع يذكر فيها أن الناس قد سألوه أسئلة، وأنه سيجيبهم عما سألوا، واحتفظت القطعة بالسؤال الأول، وهو يدور على الزمان، وقد أجابهم بأن الزمان الناس، وهم رجلان، وال ومولّى عليه. وقسم الأزمنة على أساس الوالى والرعية أربعة أقسام: قسم هو خير الأزمنة لصلاح الحاكم والمحكومين، وقسم ثان يليه وفيه يصلح الحاكم ويفسد المحكومون، وقسم ثالث يصلح فيه المحكومون ويفسد الحاكم،
¬_________
(¬1) غرر: خداع.
(¬2) الحزمة: جمع حازم

الصفحة 515