كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 3)

وقسم رابع هو شر الأزمنة لفساد الحاكم والمحكومين جميعا، وفى الأول يقول (¬1):
«خيار الأزمنة ما اجتمع فيه صلاح الراعى والرعية، فكان الإمام مؤدّيا إلى الرعية حقهم: فى الرد عنهم والغيظ على عدوهم، والجهاد من وراء بيضتهم (¬2) والاختيار لحكّامهم، وتولية صلحائهم، والتوسعة عليهم فى معايشهم، وإفاضة الأمن فيهم، والمتابعة فى الحق لهم، والعدل فى القسمة بينهم، والتقويم لأودهم (¬3) والأخذ لهم بحقوق الله عز وجلّ عليهم. وكانت الرعية مؤدية إلى الإمام حقه فى المودة والمناصحة والمخالطة وترك المنازعة فى أمره، والصبر عند مكروه طاعته، والمعونة على أنفسهم، والشدة على من أخلّ بحقه وخالف أمره، غير مؤثرين فى ذلك آباءهم ولا أبناءهم، ولا لابسين (¬4) عليه أحدا. فإذا اجتمع ذلك فى الإمام والرعية تمّ صلاح الزمان، وبنعمة الله تتمّ الصالحات»
ويظهر أن الأسئلة الأولى فى الرسالة كانت تخوض فى السياسة، وتلتها أسئلة كانت تخوض فى شئون الديانات، ولعل ذلك هو الذى جعل الدرة اليتيمة تسقط من يد الزمن، وكأن الناس تحاموا تداولها. أما رسالة الصحابة (¬5) فهى فى صحابة السلطان وبطانته ومن يستعين بهم فى حكمه من جنده وما ينبغى له فى سياسته إزاء رعيته، كتب بها إلى المنصور، وكأنه يضع له دستورا للحكم، وقد استهلّها بمدحه وبيان فضله على خلفاء بنى أمية وما تحلّى به من تشجيع ذوى النصح والرأى على الإدلاء بنصائحهم وآرائهم فيما يعود على الأمة بالنفع والخير. ثم أخذ فى تصوير الدستور الذى يريد من المنصور اتباعه فى حكمه، واصفا حسن سياسته، إذ اقتلع الولاة والأعوان المفسدين، واجتمعت حوله قلوب الرعية لما اشتمل عليه من حسن العفو واللين. ولم يلبث أن تحدث عن الجند، ومعروف أن الجند حينئذ كانوا خراسانيين فى جمهورهم، ومن ثمّ أخذ يشيد بجند خراسان وأنه لم يدرك مثلهم فى الإسلام لما امتازوا به من الطاعة والفضل والعفاف والكف عن الفساد والإعطاء عن يد للولاة والحكام، ومن أجل ذلك كانت تجب العناية
¬_________
(¬1) جمهرة رسائل العرب 3/ 49.
(¬2) البيضة: حوزة كل شئ وساحة، القوم والمراد بلدهم.
(¬3) الأود: الاعوجاج.
(¬4) لابسين هنا: مقدمين، وأصل لبس القوم التمل بهم زمنا.
(¬5) انظر فى هذه الرسالة رسائل البلغاء ص 117 وجمهرة رسائل العرب 3/ 25.

الصفحة 516