كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 3)

بهم بوضع قانون لهم، يوضح فى دقة واجباتهم وما ينبغى أن يفعلوه وما ينبغى أن يذروه ويتجنبوه، وأن مثلهم مثل الخليفة ينبغى أن يطيعوا الدين وأوامره ونواهيه، كما يطيعون الخليفة فى الأحداث المتجددة من إعلان حرب أو مهادنة أو تنظيم أمور حادثة. ومما ينظر فيه لصلاح الجند أن لا يولّى أحد منهم على شئ من الخراج فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة، إذ يخرجهم عن وظيفتهم الحربية، ويشغلهم بأمور المال والدراهم والدنانير. ولفت المنصور إلى أن من عليهم من هم خير من قادتهم. ولذلك ينبغى أن يعيد النظر فيمن جعلهم منهم قادة، فيردّ بعضهم عن القيادة ويوليها الكفء المجهول من الجند. وطلب إليه أن يعنى بتعليمهم القرآن والتفقه فى السنة وأن يتحلوا بالأخلاق الفاضلة من الأمانة والعفاف والتواضع والبعد عن الهوى وأن يجتنبوا الترف فى المطعم والملبس، كما طلب إليه تعيين مواقيت محددة لأرزاقهم ورواتبهم وأن يتفصّى أحوالهم بثقات لا يكتمون عنه منها شيئا. وانتقل ابن المقفع من الجند إلى أهل العراق عامة وأهل البصرة والكوفة خاصة، لأنهم شيعة العباسيين. وتحدث عن تفوق أهل العراق على غيرهم فى الفقه والعفاف والعقول والفصاحة، وهم لذلك خير من يستعين بهم المنصور فى دولته، وكان الأمويون قد حرموهم من تدبير الحكم مع أنهم أهله ومستحقوه.
وأوصاه-كما أوصاه فى الجند-أن يتتبع خيارهم من المجاهيل عنده، فيسند إليهم شئون الدولة، ويردّ عنها من وقع فيهم الخطأ ومن اختيروا دون تثبت وفحص كاف. وسرعان ما يعرض لفوضى القضاء الناشئة عن كثرة الاختلافات بين الفقهاء، حتى ليحكم فى القضية الواحدة بحكمين مختلفين أو أحكام مختلفة لا فى البلاد المتباعدة بل فى البلد الواحد، واقترح لدرء هذه الفوضى أن يضع المنصور قانونا يلتزمه القضاة على اختلاف منازعهم الفقهية، سواء أكانوا ممن يقدّمون الرأى ويعتدّون به أو كانوا ممن يقدمون السنة ويعتدّون بها، ويسخر من الأخيرين، إذ تمادوا فى الأخذ عن التابعين وخلفاء بنى أمية مسمّين ذلك سنّة، مما دفع إلى هذا الاضطراب الواسع فى الأقضية، يقول:
«ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين (البصرة والكوفة) وغيرهما من الأمصار والنواحى اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التى قد بلغ اختلافها

الصفحة 517