كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 3)

السّوم (¬1) واسم الذهب يتطيّر منه، ومن لؤمه سرعته إلى اللئام، وهو فاتن فانك (¬2) لمن ضانه، وهو أيضا من مصايد إبليس، ولذلك قالوا: أهلك الرجال الأحمران (¬3).
والزجاج لا يحمل الوضر (¬4)، ولا يداخله الغمر (¬5) ومتى غسل بالماء وحده عاد جديدا، وهو أشبه شئ بالماء، وصفته عجيبة، وصناعته أعجب»
ولسهل بجانب رسائله الأدبية الطويلة رسائل إخوانية يتضح فيها جمال التعبير ودقة التفكير على نحو ما نرى فى الرسالة التالية (¬6)، وقد كتب بها إلى صديق تماثل للشفاء من مرض:
«بلغنى خبر الفترة (¬7) فى إلمامها وانحسارها، والشّكاة فى حلولها وارتحالها، فكاد يشغل القلق بأوله، عن السكون لآخره، وتذهل الحيرة فى ابتدائه، عن المسرة فى انتهائه. وكان تعيرى فى الحالين بقدرهما ارتياعا للأولى وارتياحا للأخرى».
وواضح ما فى هذه الرسالة الموجزة من الغوص على المعانى، فهو يقابل بين خبر المرض وخبر الشفاء، وكيف شغلته حركة القلق مع الخبر الأول عن السكون وراحته مع الخبر الثانى، وكيف أذهلته الحيرة وكربها أولا عن المسرة ومتعتها ثانيا. ويقول إن ما دخله من تغير فى الحالين يقاس بارتياعه مع بدء العلة وارتياحه مع انحسارها. وهو فى جميع جوانب كتاباته شديد الغوص والتدقيق فى معانيه، وجاء السجع على لسانه فى أكثر هذه الرسالة، وهو إنما يجئ عنده أحيانا عفوا.
وليس معنى ذلك أنه لم يكن يعنى بتوفير الجمال لأساليبه فهو من هذه الناحية يتقدم ابن المقفع خطوات. إذ يعنى ببسط عباراته، حتى يجرى فيها ضروبا من التقطيعات والتوقيعات الصوتية ومن أجل ذلك يكثر عنده الترادف، حتى يصل إلى ما يريد من ازدواج وإيقاعات متقابلة، ودائما حين نقرؤه يلذ عقولنا بغزارة معانيه ودقتها كما يلذ أسماعنا بجرس كلامه وحسن أدائه وما يكفل له من تلوينات صوتية بديعة.
¬_________
(¬1) السوم: المساومه فى البيع.
(¬2) فانك: غالب.
(¬3) الأحمران: الذهب وطيب الزعفران.
(¬4) الوضر: الوسخ.
(¬5) الغمر: الدسم.
(¬6) انظرها فى سرح العيون ص 245.
(¬7) الفترة: الوعكة والضعف.

الصفحة 540