كتاب الأزهر في ألف عام (اسم الجزء: 3)

وأن يذود عنها، وأن يرمي خارج محيطه بمن يفكر في التحلل منها، ولقد كانت النتيجة الحتمية لهذا الميراث الثقيل أن وقفت حركة التفكير العلمي في الأزهر، وحرم نفسه لذة البحث والنقد، وانحصرت مظاهر التبريز والنبوغ فيه في القدرة على حل المشاكل اللفظية في المتون والشروح والحواشي-التي تعود على العلم بكبير فائدة، وبهذا انقطعت علاقة الأزهر بالأمة في تفكيره وعلومه وتشريعه، وأصبحت النظرات المتبادلة بينهما كالنظرات المتبادلة بين طائفتين ضاقت كل منهما ذرعا بصاحبتها، وأخذت تتربص بها الأحداث والدوائر.
ظل الأزهر كذلك حتى هيأ اللّه له-على سنة اللّه سبحانه: من عدم إخلاء الأمم ممن يعرف الحق ويدعو إليه-واحدا من أبنائه لا ينسى التاريخ فضله، هو الاستاذ الإمام المصلح له الشيخ محمد عبده رحمه اللّه ورضي عنه. صاح بالأزهر صيحة أيقظته من نومه، ونبهته بعض الشيء إلى واجبه، وكانت مبادئه وأفكاره بمثابة شعاع انبثق في أفق الأزهر، انتفع به من انتفع، وأزور عنه من أزور، ولكنه مع ما قوبل به من محاولات متعددة لإطفائه، ظل قويا وهاجا يجذب إليه أنظار المؤمنين، وينفذ إلى بصائر المخلصين، ويعلو ويتسع أنفه شيئا بعد شيء. ومنذ ذلك الحين اتجهت الأنظار إلى وضع نظم من شأنها أن تمكن الأزهر من الانتفاع بهذا النور، والسير على هداه حتى يقوم برسالته، ويصل إلى غرضه المنشود، فوضعت نظم متلاحقة متشابهة ضمت إلى العلوم الشرعية والعربية كثيرا من العلوم العقلية والرياضية فاتسع لها صدر الأزهر، وهضمتها عقليته الجديدة.
والأزهر الآن في كلياته ومعاهدة والقضاء الشرعي والإفتاء، والوعظ والإرشاد في المساجد وغيرها، كل أولئك ينتفعون بطائفة كبيرة من العلماء الذين تخرجوا في ظلال هذه النظم، لهم أثر واضح في حياة الأمة من جميع نواحيها، واستمر الأزهر كذلك إلى أن تولى مشيخة الأزهر للمرة الأولى الشيخ محمد مصطفى المراغي، وهو من أبناء الأزهر الذين عرفوا تاريخه

الصفحة 20