كتاب الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ (اسم الجزء: 3)

وزعمَ محمّدُ بنُ يحيى الذُّهلي أنَّه لا يَصحّ لأبي أُمامة عن أبيه إلا حديثُ واحدٌ وهو: "لا يقل أحدُكم خَبُثَت نفسي" (١). وفي ذلك نَظر، والظنُّ به أنَّه قال ذلك لقِلَّةِ حديثه عنه، ولم يُرِد نَفْيَ صُحبَتِه لأبيه، ولا أَنْكَر سَماعَه منه؛ لأنَّ أبا أمامة وُلِدَ في حياة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومات أبوه سنةَ ثمانٍ وثلاثين بعدَ صِفِّين، فصُحبتُه لأبيه معلومة لمكان النِّسبَةِ، والسَّماعُ متيقَّنٌ لطولِ الصُّحبةِ، وإنَّما أراد أنَّه لَم يُروَ عنه حديث أسندَه إلى أبيه وأفْصَحَ فيه بسماعِه منه غيرَ الحديثِ الواحدِ الَّذِي ذكر، وسائِرُ ما رُوِيَ عنه من حديثِ أَبيه فغَيرُ مُصَرَّحٍ بالسَّماعِ فيه، وإذا كان كذلِك دَخَلَه الاحتِمالُ، ولم يُلحقْ بالصَّحيح عندَه (٢).
وهذا غيرُ لاَزِمٍ عند أهلِ الحديثِ، وقد خَرَّج له مسلمٌ عن أبيه حديثَ: "مَن سألَ الشهادةَ". وكَفَى بِمسلمٍ (٣).
---------------
(١) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: الأدب باب: لا يقل أحدكم خبثت نفسي (٧/ ١٤٩) (رقم: ٦١٨٠).
(٢) أي أنَّ الذهليَّ يشترط التصريح بالسماع في كل حديث ولا يكتفي بالسماع ولو مرّة واحدة، وهذا محلّ نظر، وقد حكاه الرامهرمزي عن بعض الفقهاء وابن الصلاح عن قوم لم يسمّهم، ولا أظن أنَّ الذهلي يقول به، بل لو قال به لاشتهر عنه ونقل.
قال ابن رُشيد السِّبتي: "وإذ بان أنه قولٌ لبعض الفقهاء المتأخرين، فهو مسبوق بإجماع علماء الشأن". انظر: المحدّث الفاصل (ص: ٤٥٠)، علوم الحديث لابن الصلاح (ص: ٥٦)، السَنَن الأبين لابن رُشيد (ص: ٤٣ - ٥١).
(٣) انظر: صحيح مسلم كتاب: الإمارة باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله (٣/ ١٥١٧) (رقم: ١٩٠٩).
وسماعُ أبي أمامة من أبيه ثابتٌ حتى على مذهب البخاري؛ لأنَّ من شرطه أن يثبت السّماعُ واللقاءُ ولو مرّة واحدة، وقد ثبت سماعُه لحديث "لا يقل أحدكم خبثت نفسي"، وخرّجه البخاري كما سبق.
وكأنَّ المصنِّف يرجّح مذهب مسلم في هذه المسألة، فلا يشترط ثبوت اللقاء، وإنما المعاصرة وإمكان اللقاء، وللمحدّثين في ذلك تفصيل، وانظر: كتاب ابن رُشيد "السَنَن الأبين والموردُ الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن".

الصفحة 115