كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 3)

هُوَ كل ثوب لَهُ خمل من أَي لون كَانَ، وَقيل: هُوَ الْأسود من الثِّيَاب. قَوْلهَا: (فانسللت) أَي: ذهبت فِي خُفْيَة لاحْتِمَال وُصُول شَيْء من الدَّم إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لِأَنَّهَا تقذرت نَفسهَا وَلم ترتضها لمضاجعة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وخافت أَن ينزل الْوَحْي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فانسلت لِئَلَّا تشغله حركتها عَمَّا هُوَ فِيهِ من الْوَحْي أَو غَيره. قَوْله: (أنفست) بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء، قَالَ النَّوَوِيّ: رَحمَه الله، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي اللُّغَة بِمَعْنى: حِضْت، فَأَما فِي الْولادَة، فنفست، بِضَم النُّون وَكسر الْفَاء، وَقيل: بِضَم النُّون وَفتحهَا، وَفِي الْحيض بِالْفَتْح لَا غير، وَفِي (الواعي) نفست: بِضَم النُّون، حَاضَت وَفِي (نَوَادِر اللحياني) وَمن خطّ أبي مُوسَى الْحَافِظ: نفست الْمَرْأَة تنفس، بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي والمستقبل، أذا حَاضَت وَفِي (أدب الْكتاب) عَن ثَعْلَب، النُّفَسَاء الوالدة وَالْحَامِل وَالْحَائِض، وَقَالَ ابْن سَيّده: وَالْجمع من كل ذَلِك، نفساوات ونفاس ونفاس وَنَفس وَنَفس وَنَفس وَنَفس ونفاس قَوْله: (ثِيَاب حيضتي) بِكَسْر الْحَاء، وَهِي حَال الْحيض هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل يَحْتَلِم، فتح الْحَاء هُنَا أَيْضا، فَإِن الْحَيْضَة، بِالْفَتْح، هِيَ الْحيض. قلت: لَا يُقَال هُنَا بِالِاحْتِمَالِ، فَإِن كلاًّ مِنْهُمَا لُغَة ثَبت عَن الْعَرَب، وَهِي أَن الْحَيْضَة: بِالْكَسْرِ، الِاسْم من الْحيض، وَالْحَال الَّتِي تلزمها الْحَائِض من التجنب والتحيض، كالجلسة والقعدة من الْجُلُوس وَالْقعُود، فَأَما الْحَيْضَة بِالْفَتْح، فالمرة الْوَاحِدَة من دفع الْحيض أَو ثَوْبه وَأَنت تفرق بَينهمَا بِمَا تَقْتَضِيه قرينَة الْحَال من مساق الحَدِيث، وَجَاء فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: لَيْتَني كنت حَيْضَة ملقاة، هِيَ بِالْكَسْرِ خرقَة الْحيض، وَجزم الْخطابِيّ هُنَا بِرِوَايَة الْكسر، ورجحها النَّوَوِيّ، وَرجح الْقُرْطُبِيّ رِوَايَة الْفَتْح لوروده فِي بعض طرقه بِلَفْظ: حيض بِغَيْر تَاء.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز النّوم مَعَ الْحَائِض فِي ثِيَابهَا والاضطجاع مَعهَا فِي لِحَاف وَاحِد. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب اتِّخَاذ الْمَرْأَة ثيابًا للْحيض غير ثِيَابهَا الْمُعْتَادَة. وَمِنْهَا: أَن عرقها طَاهِر. فَإِن قلت: قَالَ الله تَعَالَى: {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} (سُورَة الْبَقَرَة: 222) قلت: مَعْنَاهُ فاعتزلوا وطئهن. وَمِنْهَا: التَّنْبِيه على أَن حكم الْحيض وَالنّفاس وَاحِد فِي منع وجوب الصَّلَاة وَعدم جَوَاز الصَّوْم وَدخُول الْمَسْجِد وَالطّواف وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف وَنَحْو ذَلِك. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ ينص البُخَارِيّ على حكم النّفاس وَحده؟ قلت: الْمُهلب: لِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا على شَرطه فِي حكم النّفاس.
واستنبط من الحَدِيث أَن حكمهمَا وَاحِد. قلت: النُّصُوص فِيهَا كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (كَانَت النُّفَسَاء تجْلِس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ يَوْمًا) وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث سُهَيْل عَن مسَّة الإزدية عَن أم سَلمَة، وَحسنه الْبَيْهَقِيّ والخطابي، وَقَالَ الْأَزْدِيّ: حَدِيث مَسّه أحْسنهَا. وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (أَن أم سَلمَة سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كم تجْلِس الْمَرْأَة، إِذا ولدت؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلاَّ أَن ترى الطُّهْر قبل ذَلِك) وَعند ابْن مَاجَه، من حَدِيث سَلام بن سليم عَن حميد عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ: (وَقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنفساء أَرْبَعِينَ يَوْمًا) وَحَدِيث عُثْمَان عَن أبي الْعَاصِ مثله، وَضَعفه ابْن عدي. وَقَالَ الْحَاكِم: إِن سلم هَذَا الْإِسْنَاد من أبي بِلَال فَإِنَّهُ مُرْسل صَحِيح، فَإِن الْحسن لم يسمع من عُثْمَان، وَحَدِيث معَاذ بن جبل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه أَحْمد بن حَنْبَل فِي كتاب الْحيض، وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ ضعفه ابْن عدي، وَحَدِيث عَائِذ بن عَمْرو ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ، وَحَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) وَحَدِيث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ضعفه ابْن حزم، وَحَدِيث الْعَلَاء بن كثير عَن أبي الدَّرْدَاء وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُمَا، رَوَاهُ ابْن عدي بِالْإِرْسَال فِيمَا بَين مَكْحُول وَبَينهمَا. وَأما مَوْقُوف ابْن عَبَّاس فسنده صَحِيح فِي مُسْند الدَّارمِيّ، وخرجه أَيْضا ابْن الْجَارُود فِي (المنتفى) وَفِي (كتاب الْأَحْكَام) لأبي عَليّ الطوسي، أجمع أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ على أَن النُّفَسَاء تدع الصَّلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلاَّ أَن ترى الطُّهْر قبل ذَلِك، فَإِنَّهَا تَغْتَسِل وَتصلي، فَإِذا رَأَتْ الدَّم بعد الْأَرْبَعين فَإِن أَكثر أهل الْعلم قَالُوا: لَا تدع الصَّلَاة بعد الْأَرْبَعين، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم من الْفُقَهَاء، ويروى عَن الْحسن، تدع الصَّلَاة خمسين يَوْمًا، وَعَن عَطاء سِتِّينَ يَوْمًا.

الصفحة 264