كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 3)

كَمَا تقرر هَذَا فِي مَوْضِعه. قَوْله: (أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مثل نصف شَهَادَة الرجل) إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَرجل وَامْرَأَتَانِ مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} (سُورَة الْبَقَرَة: 282) فَإِن قلت: النُّكْتَة فِي تَعْبِيره بِهَذِهِ الْعبارَة وَلم يقل: أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ مثل شَهَادَة الرجل؟ قلت: لِأَن فِي عِبَارَته تِلْكَ تنصيصاً على النَّقْص صَرِيحًا. بِخِلَاف مَا ذكرت، فَإِنَّهُ يدل عَلَيْهِ ضمنا فَافْهَم، فَإِنَّهُ دَقِيق فَإِن قلت: أَلَيْسَ ذَلِك ذماً لَهُنَّ؟ قلت: لَا وَإِنَّمَا هُوَ على معنى التَّعَجُّب بأنهن مَعَ اتصافهن بِهَذِهِ الْحَالة يفعلن بِالرجلِ الحازم كَذَا وَكَذَا فَإِن قلت: هَذَا الْعُمُوم فِيهِنَّ يُعَارضهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كمل من الرِّجَال كثير، وَلم يكمل من النِّسَاء إلاَّ مَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم) وَفِي رِوَايَة أَربع، وَهُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَأحمد من حَدِيث أنس: رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَسبك من نسَاء الْعَالمين بِأَرْبَع: مَرْيَم بنت عمرَان، وآسية امْرَأَة فِرْعَوْن، وَخَدِيجَة بنت خويلد، وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قلت: أجَاب بَعضهم بِأَن الْإِفْرَاد خرج عَن ذَلِك لِأَنَّهُ نَادِر قَلِيل، وَالْجَوَاب السديد فِي ذَلِك هُوَ أَن الحكم على الْكل بِشَيْء لَا يسْتَلْزم الحكم على كل فَرد من أَفْرَاده بذلك الشَّيْء وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَنقص الدّين قد يكون على وَجه يَأْثَم بِهِ، كمن ترك الصَّلَاة بِلَا عذر، وَقد يكون على وَجه لَا يَأْثَم لَهُ، كمن ترك الْجُمُعَة بِعُذْر، وَقد يكون على وَجه هُوَ مُكَلّف بِهِ كَتَرْكِ الْحَائِض الصَّلَاة وَالصَّوْم. فَإِن قيل: فَإِذا كَانَت معذورة، فَهَل تثاب على ترك الصَّلَاة فِي زمن الْحيض؟ وَإِن كَانَت لَا تقضيها كَمَا يُثَاب الْمَرِيض، وَيكْتب لَهُ فِي مَرضه مثل نوافل الصَّلَوَات الَّتِي كَانَ يَفْعَلهَا فِي صِحَّته. وَالْجَوَاب أَن ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنَّهَا لَا تثاب، وَالْفرق أَن الْمَرِيض كَانَ يَفْعَلهَا بنية الدَّوَام عَلَيْهَا مَعَ أَهْلِيَّته لَهَا، وَالْحَائِض لَيست كَذَلِك، بل نِيَّتهَا ترك الصَّلَاة فِي زمن الْحيض، وَكَيف لَا وَهِي حرَام عَلَيْهَا؟ قلت: يَنْبَغِي أَن يُثَاب على ترك الْحَرَام. قَوْله: (فَذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من. قَوْله: (أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مثل نصف شَهَادَة الرجل) . قَوْله: (فَذَلِك) بِكَسْر الْكَاف، خطابا للواحدة الَّتِي تولت الْخطاب، وَيجوز فتح الْكَاف على أَنه للخطاب الْعَام.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام وهوعلى وُجُوه: الأول: فِيهِ اسْتِحْبَاب خُرُوج الإِمَام مَعَ الْقَوْم إِلَى مصلى الْعِيد فِي الْجَبانَة لأجل صَلَاة الْعِيد، وَلم يزل الصَّدْر الأول كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك، ثمَّ تَركه أَكْثَرهم لِكَثْرَة الْجَوَامِع، وَمَعَ هَذَا فَإِن أهل بِلَاد شَتَّى لم يتْركُوا ذَلِك. الثَّانِي: فِيهِ الْحَث على الصَّدَقَة لِأَنَّهَا من أَفعَال الْخيرَات وَالْمِيرَاث فَإِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات، وَلَا سِيمَا فِي مثل يَوْم الْعِيدَيْنِ لِاجْتِمَاع الْأَغْنِيَاء والفقراء، وتحسر الْفُقَرَاء عِنْد رُؤْيَتهمْ الْأَغْنِيَاء وَعَلَيْهِم الثِّيَاب الفاخرة، وَلَا سِيمَا الْأَيْتَام الْفُقَرَاء والأرامل الفقيرات، فَإِن الصَّدَقَة عَلَيْهِم فِي مثل هَذَا الْيَوْم مِمَّا يقل تحسرهم وهمهم، وَإِمَّا تَخْصِيصه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النِّسَاء فِي ذَلِك الْيَوْم، حَيْثُ أمرهن بِالصَّدَقَةِ فلغلبة الْبُخْل عَلَيْهِنَّ، وَقلة معرفتهن بِثَوَاب الصَّدَقَة وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من الْحسن وَالْفضل فِي الدُّنْيَا قبل يَوْم الْآخِرَة. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز خُرُوج النِّسَاء أَيَّام الْعِيد إِلَى الْمصلى للصَّلَاة مَعَ النَّاس. وَقَالَت الْعلمَاء: كَانَ هَذَا فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الْيَوْم فَلَا تخرج الشَّابَّة ذَات الْهَيْئَة، وَلِهَذَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَو رأى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أحدث النِّسَاء بعده لمنعهن الْمَسَاجِد، كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل. قلت: هَذَا الْكَلَام من عَائِشَة بِعُذْر من يسير جدا بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الْيَوْم فنعوذ بِاللَّه من ذَلِك، فَلَا يرخص فِي خروجهن مُطلقًا للعيد وَغَيره، وَلَا سِيمَا نسَاء مصر، على مَا لَا يخفى. وَفِي (التَّوْضِيح) رأى جمَاعَة ذَلِك حَقًا عَلَيْهِنَّ، يَعْنِي: فِي خروجهن للعيد مِنْهُم: أَبُو بكر وَعلي وَابْن عمر وَغَيرهم، وَمِنْهُم من منعن ذَلِك، مِنْهُم: عُرْوَة وَالقَاسِم وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَأَبُو يُوسُف، وَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة مرّة وَمنعه أُخْرَى، وَمنع بَعضهم فِي الشَّابَّة دون غَيرهَا، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأبي يُوسُف، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: كَانَ الْأَمر بخروجهن أول الْإِسْلَام لتكثير الْمُسلمين فِي أعين الْعَدو. قلت: كَانَ ذَلِك لوُجُود الْأَمْن أَيْضا، وَالْيَوْم قلَّ الأمنُ، والمسلمون كثير، وَمذهب أَصْحَابنَا فِي هَذَا الْبَاب مَا ذكره صَاحب (الْبَدَائِع) أَجمعُوا على أَنه لَا يرخص للشابة الْخُرُوج فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَة وَشَيْء من الصَّلَوَات، لقَوْله تَعَالَى: {وقرون فِي بُيُوتكُمْ} (سُورَة الْأَحْزَاب: 33) وَلِأَن خروجهن سَبَب للفتنة وَأما الْعَجَائِز فيرخص لَهُنَّ الْخُرُوج فِي الْعِيدَيْنِ، وَلَا خلاف أَن الْأَفْضَل أَن لَا يخْرجن فِي صَلَاة مَا، فَإِذا خرجن يصلين صَلَاة الْعِيد، فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف عَنهُ، لَا يصلين، بل يكثرن سَواد الْمُسلمين وينتفعن بدعائهم، وَفِي حَدِيث أم عَطِيَّة، قَالَت: [حم (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج الْعَوَاتِق ذَوَات الْخُدُور وَالْحيض

الصفحة 272