كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 3)

يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَيْ غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مِثْلَ الْفَنِيقِ الْمُكْدَمِ

فقولُه: (ينباع) أصلُه: (يَنْبَع) يعنِي: أن العرقَ ينبعُ من عَظْمِ ذِفراها، وهو العظمُ الذي خَلْفَ أُذُنِهَا، أصلُه يسيلُ منه العرقُ من الإبلِ إذا سَارَتْ سيرًا شديدًا.
وقراءةُ الجمهورِ هي التي يجوزُ القراءةُ بها {تَنْحِتُونَ الْجِبَالَ} جمع جبلٍ. {بُيُوتًا} جمع بيتٍ. قرأه حفصٌ عن عاصمٍ، وورشٌ عن نافعٍ، وأبو عمرٍو: {بُيُوتًا} بضمِّ الباءِ على الأصلِ (¬1): جمعُ بيتٍ، والبيتُ هو ما يُسْكَنُ فيه، سُمِّيَ بيتًا لأَنَّ الساكنَ يبيتُ فيه.
{فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} أي: نِعَمَ اللَّهِ عليكم حيث جعلكم خلفاءَ في الأرضِ من بعدِ عادٍ ويسَّر لكم القصورَ في سهولِها، وَيَسَّرَ لكم نحتَ الجبالِ في نفسِ الجبالِ لِتَنَالُوا من بردِ السُّكْنَى زمنَ الحرِّ، ومن الاستدفاءِ زمنَ البردِ، وَكُلُّ هذا نعمُ اللَّهِ وآلاؤُه عليكم. وهذا معنَى قولِه: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ} أي: نِعَمَهُ التي أَنْعَمَهَا عليكم.
وكان بعضُ العلماءِ يقولُ (¬2): هذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على بناءِ القصورِ الشامخاتِ لأَنَّ اللهَ امْتَنَّ عليهم على لسانِ نَبِيِّهِمْ، بأنهم يتخذونَ القصورَ. وقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ في ظواهرَ كثيرةٍ من الشرعِ أنه لا ينبغي للإنسانِ أن يتطاولَ في البنيانِ وَيَبْنِيَ فوقَ حاجتِه وَيُضَيِّعَ المالَ في ذلك، فينبغي للإنسانِ أن يبنيَ قدرَ حاجتِه وألا يضيعَ المالَ فيما يزيدُ على قدرِ حاجتِه من القصورِ الشامخةِ، ولاسيما إن كان ذلك على سبيلِ المباهاةِ والتفاخرِ فلا خيرَ
¬_________
(¬1) راجع ما تقدم قريبًا.
(¬2) انظر: القرطبي (7/ 239).

الصفحة 526