كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 3)

ومضادةِ ما جاؤوا به لئلا يُهْلِكَهُمُ اللهُ وينزلَ بهم ما أنزلَ بغيرهم، وهذا معنَى قوله: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: آية 78].
{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [الأعراف: آية 79] فَتَوَلَّى نَبِيُّ اللهِ صالحٌ عنهم، وهذا التولِّي للعلماءِ فيه وَجْهَانِ (¬1):
[12/ب] / أحدُهما: أنه تَوَلَّى عنهم لَمَّا تَحَقَّقَ الهلاكَ، وأنه نازلٌ بهم تَوَلَّى راجعًا عنهم وقال لهم: {يَا قَوْمِ} وَاللَّهِ {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} غايةَ النصحِ {لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} فكرهتُم نصيحتِي ورددتموها وستجدونَ غِبَّ ذلك.
وبعضُ العلماءَ يقولونَ: إن نَبِيَّ اللهِ صالحًا لم يقل لهم هذا إلا بعدَ أن نزلَ بهم عذابُ اللهِ وصاروا مَوْتَى، وَفَارَقَتْ أرواحُهم أجسادَهم، جاء إلى جثثِهم وَوَبَّخَهُمْ هذا التوبيخَ بعدَ أن ماتوا. وهذا الأخيرُ هو ظاهرُ القرآنِ؛ لأَنَّ قوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} مُرَتَّبٌ بالفاءِ على قولِه: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} والفاءُ تَقْتَضِي التعقيبَ، فكونُه قال لهم هذا بعدَ أن ماتوا وَأَصْبَحُوا في دارِهم جاثمينَ هو ظاهرُ القرآنِ، وظاهرُ القرآنِ لا يجوزُ العدولُ عنه إلا لأمرٍ يجبُ الرجوعُ إليه (¬2). وقد وَقَعَ مثلُ هذا من نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فقد ثَبَتَ في الصحيحِ أن كفارَ قريشٍ لَمَّا ماتوا يومَ بدرٍ وَجُعِلُوا في القليبِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - موتَى كُفَّارًا وَقَفَ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ أمواتٌ بعدَ ثلاثٍ وقال: - نَادَاهُمْ بأسمائهم - يا أَبَا جهل بن هشامٍ، يا عتبة بن ربيعةَ، يا شيبةُ بنَ ربيعةَ،
¬_________
(¬1) انظر: القرطبي (7/ 242).
(¬2) مضى عند تفسير الآية (56) من سورة البقرة.

الصفحة 534