كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 3)

بالرفعِ (¬1) ففي الآيةِ إشكالٌ متعارضٌ مع قولِه: {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} لأن قولَه: {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} بالفتحِ يدلُّ على أنه لم يَسْرِ بها، وعلى قراءةِ {إلا امرأتُك} يدلُّ على أنه سَرَى بها، وأنها لم يَلْتَفِتْ أحدٌ إِلاَّ هِيَ.
وَجَمَعَ بعضُ العلماءِ بينَ القراءتين بأن اللهَ أَعْلَمَهُ أنها هالكةٌ لا مَحَالَةَ، وأنه لم يَسْرِ بها إسراءً إلى حيثُ النجاةُ، سواء بَقِيَتْ معهم أو ذَهَبَتْ معهم قليلاً فالتفتت فأصابَها حجرٌ فأهلكها كما أَهْلَكَ قومَها، فهي هالكةٌ على كِلاَ القولين سواء أَسْرَى بها فالتفتت فهلكت، أو بقيت معهم، فهي هالكةٌ على كُلِّ حالٍ. وفائدةُ إسرائِه بِمَنْ معه هي النجاةُ، وهي محرومةٌ من هذه الفائدةِ. وإذًا يكونُ معنَى القراءتين كالشيءِ الواحدِ. هكذا قال بعضُ العلماءِ. وهذا معنَى قولِه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ}.
{كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: آية 83] (الغابرين): جمعُ الغابرِ، والغابرُ اسمٌ مشتركٌ من الأضدادِ، يُطْلَقُ على الماضِي وعلى الباقِي، تُقال (الغابر) للماضي، و (الغابر) للباقي. والمرادُ بها هنا: الباقين. {مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: من الباقين في الهلاكِ. فَعَلَى القولِ بأنه لم يَسْرِ بها فالكلامُ ظاهرٌ، وعلى القولِ بأنه أَسْرَى بها: عندما خرجَ بها الْتَفَتَتْ فَهَلَكَتْ، فكأنها بَقِيَتْ معهم، فهي باقيةٌ معهم في الهلاكِ: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: آية 81] وَاللَّهُ بَيَّنَ هذه القصةَ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه وأوضحَها؛ لأن الرسلَ لمَّا قالوا لإبراهيمَ: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} وَبَيَّنُوا له أنهم سَيُهْلِكُونَ القريةَ قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا
¬_________
(¬1) انظر: السبعة ص338، حجة القراءات ص347، الدر المصون (6/ 365 - 369).

الصفحة 566