كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 3)

وهو حَظُّ الإثباتِ منها، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النمل: آية 36] وهو حظُّ النفيِ منها {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [الزخرف: آية 45] وهكذا.
وهذا من تاريخِ الأنبياءِ والقصصِ القرآنيةِ يدلُّ على عظمةِ هذه الكلمةِ، وأنها هي رسالةُ اللهِ في أرضِه لِخَلْقِهِ، حتى إنه (جل وعلا) حَصَرَ جميعَ الوحيِ فيها في سورةِ الأنبياءِ في قولِه: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: آية 108] وغيرِ ذلك من الآياتِ و (إنما) أداةُ حصرٍ لشدةِ أهميةِ هذه الكلمةِ.
وهي مركبةٌ مِنْ نَفْيٍ وإثباتٍ، إثباتُها قولُه: {اعْبُدُوا اللَّهَ} وهي الأمرُ بعبادتِه وحدَه. أصلُ العبادةِ الذلُّ والخضوعُ، ومنه قِيلَ للعبدِ (عبد) لِذُلِّهِ وخضوعِه بين يَدَيْ سَيِّدِهِ، فكلُّ خاضعٍ ذليلٍ يقال له: عبدٌ وعابدٌ. فالعبادةُ: الذُّلُّ والخضوعُ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ مشهورٌ، ومنه قولُ طرفةَ بنِ العبدِ في معلقتِه (¬1):
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وَأَتْبَعَتْ ... وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
يعني: فوقَ طريقٍ مُذَلَّلٍ. ومعناها في الاصطلاحِ (¬2): هي الذلُّ والخضوعُ لخالقِ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا) بكلِّ ما أَمَرَ أن يُتَقَرَّبَ إليه به على وجهِ الذلِّ والخضوعِ والمحبةِ. فلا تكفِي المحبةُ عن الذلِّ والخضوعِ، ولا الخضوعُ عن الذلِّ والمحبةِ؛ لأن الذليلَ الخاضعَ إذا كان غيرَ مُحِبٍّ لمعبودِه قد يكونُ مُبْغِضًا له، وَمَنْ أَبْغَضَ معبودَه فهو كافرٌ ضَالٌّ. والمحبةُ وحدَها لا تكفي؛ لأن الذي
¬_________
(¬1) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (59) من هذه السورة.
(¬2) السابق.

الصفحة 575