كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 3)

وَاللَّهُ (جل وعلا) مِنْ حِكَمِهِ البالغةِ، وتشريعاتِه الرائعةِ وَضْعُهُ المقاييسَ كالمكاييلِ والموازين؛ لأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الإنسانَ مُحْتَاجًا للنساءِ، وَمُفْتَقِرًا للغذاءِ، وخلق له ما في الأرضِ جميعًا، ولم يتركه سُدًى، فهو محتاجٌ للطعامِ الذي عِنْدَ أَخِيهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ المقاديرَ والمقاييسَ؛ ليأخذَ قَدْرًا مُعَيَّنًا معلومًا بدقةٍ ويدفعُ ثمنَه فينتفعُ به، وهو وصاحبُه كُلٌّ منهما طيبُ النفسِ. ولو لم تُجْعَلْ مقاييسُ وموازينُ وأشياءٌ دقيقةٌ يعلم بها كُلُّ ما أخذ وما دفع لكانوا يتهارشون على الحاجاتِ الضروريةِ تهارشَ الكلابِ، وَفَسَدَ نظامُ الدنيا، وهذا من تشريعِ خالقِ السماواتِ والأرضِ. وهذا معنَى قولِه: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف: آية 85] والله (جل وعلا) في كتابِه شَدَّدَ في إيفاءِ الكيلِ والوزنِ تشديدًا بالغًا، وهددَ مَنْ يخونُ تهديدًا بالغًا، كما سيأتيكم في قولِه: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: الآيات 1 - 6] وذلك لأَنَّ الطعامَ المكيلَ عليه أساسُ الدنيا؛ لأن البشرَ لا حياةَ لهم دينيةٌ ولا دنيويةٌ إلا بشيءٍ يأكلونَه، واللَّهُ يقولُ في الأنبياءِ الْكِرَامِ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: آية 8] فَلَمَّا كانت المكيلاتُ والموزوناتُ غالبًا أساسَ الحياةِ جاءَ الوحيُ المنزلُ والتشريعُ السماويُّ في شريعتِنا وغيرِها على شِدَّةِ المحافظةِ عليها.
وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: آية 85] كانوا يَبْخَسُونَ الناسَ جميعَ أشيائِهم. والبخسُ في لغةِ العربِ التي نزل بها القرآنُ: النقصُ، العربُ تقولُ: بَخَسَهُ

الصفحة 586