كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 3)

ثم قال: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأعراف: آية 89] فهذه الجملةُ معلقةٌ على شَرْطٍ، والمعلقُ على الشرطِ لاَ يُعْرَفُ كذبُه ولا صدقُه إلا بوجودِ الشرطِ أو عدمِه، وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، تقولُ: قد وقعَ كذا إن كان كذا. فإن كان الشرطُ مَنْفِيًّا انتفى المشروطُ، والمعنَى: قد افْتَرَيْنَا على اللَّهِ كذبًا إن عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ. المعروفُ عند البصريين أن الشرطَ إذا تَقَدَّمَهُ ما يكونُ جزاءً أنه يكونُ دليلاً على الجزاءِ المقدَّر، والكوفيونَ لا يمنعونَ تقدمَ الجزاءِ على الشرطِ. فعلى قولِ الكوفيين لا مانعَ من أن يكونَ المعنَى: إِنْ عُدْنَا في ملتكم فقد افْتَرَيْنَا على اللَّهِ الكذبَ، وأن قولَه: {قَدِ افْتَرَيْنَا} هو جزاءُ الشرطِ قُدِّمَ عليه في قولِه: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ}.
والثاني: على مذهبِ البصريين من النحاةِ: أن جزاءَ الشرطِ لا يتقدمُ عليه ولكنه يدلُّ عليه، وعلى قولِهم فجزاءُ الشرطِ مقدرٌ تقديره: إِنْ عُدْنَا في ملتكم فقد افترينا على اللهِ كَذِبًا، والمعنَى: أن ملةَ الكفارِ كُلَّهَا كَذِبٌ وزورٌ وبهتانٌ، يدَّعونَ لِلَّهِ الأولادَ، ويجعلونَ له الأندادَ، ويُكَذِّبونَه ويُكَذِّبونَ رُسُلَهُ، فكلُّها كَذِبٌ وافتراءٌ، والعائدُ إليها عائدٌ إلى أعظمِ الكذبِ والافتراءِ، وهذا معنَى قولِه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.
الصحيحُ أن الكذبَ هو: عدمُ مطابقةِ الكلامِ للواقعِ في نفسِ الأَمْرِ (¬1)، والأقوالُ فيه معروفةٌ يذكرها البلاغيونَ في فَنِّ المعانِي.
{إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} أي: رَجَعْنَا إليها، وهذا بالنسبةِ إلى غيرِ شعيبٍ ظاهرٌ أي: أُلْجِئْنَا إليها بالنظرِ إلى شعيبٍ كما ذَكَرْنَاهُ.
¬_________
(¬1) مضى عند تفسير الآية (93) من سورة الأنعام.

الصفحة 599