كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 3)

{بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: آية 89] وقولُه: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} قرينةٌ على أنه عودٌ بعدَ ملابسةٍ سابقةٍ لقولِه: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} لأَنَّ الجماعةَ الذين آمنوا لشعيبٍ كانوا كَافِرِينَ، وهذا معنَى قولِه: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} أَنْقَذَنَا اللَّهُ من الكفرِ وعبادةِ الأوثانِ وغيرِ دلك بِأَنْ بَعَثَ إلينا نَبِيًّا كريمًا معه المعجزاتُ الواضحةُ تدلُّ على صِدْقِهِ، كما تَقَدَّمَ في قولِه: {قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ... } الآيةَ [الأعراف: آية 85].
ثم قال: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} {وَمَا يَكُونُ لَنَا} [الأعراف: آية 89] معناه: ما يَصِحُّ لنا، وما ينبغي مِنَّا، ولا يمكنُ لنا {أَنْ نَّعُودَ فِيهَا} أن نرجعَ إليها، أو أن نصلَ إليها كما قِيلَ، فَنَبِيُّ الله شعيبٌ لمَّا تَبَرَّأَ من الملةِ الكافريةِ، وقال إنهم إن عَادُوا إليها فقد افْتَرَوْا على اللَّهِ كَذِبًا، فَوَّضَ جميعَ أَمْرِهِ إلى اللَّهِ، وَبَيَّنَ أن الأمورَ كُلَّهَا بيدِ الله، فهو الذي بيدِه الهدايةُ وإليه الضلالُ، فإن نَبِيَّ اللَّهِ شعيبًا وإن كان من خيارِ المرسلين لاَ يهديه ويوفقُه إلا رَبُّهُ - جل وعلا - وهذه عادةُ العارفينَ بالله يعلمونَ أنه لاَ توفيقَ إلا بتوفيقِ اللَّهِ {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: آية 41] {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: آية 37] ونحو ذلك من الآياتِ.
{إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} يريدُ رَبُّنَا بمشيئتِه الكونيةِ القدريةِ شيئًا فلا مَفَرَّ ولاَ مَوْئِلَ عما شَاءَ وَقَدَّرَ.
{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (علمًا) هنا: تمييزٌ محوَّلٌ عن الفاعلِ، أصلُه فاعل (وسع) فَأُعْطِيَ الفعلُ فاعلاً آخَرَ وَحُوِّلَ التمييزُ عن الفاعلِ. معنَى {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي: وَسِعَ علمُه كُلَّ شيءٍ، فَاللَّهُ يعلمُ كُلَّ شيءٍ، ويعلمُ ما هو أَعَمُّ من الشيءِ؛ لأن المعدومَ في مذهبِ أهلِ

الصفحة 600