كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 3)

اللَّهَ أَرْسَلَ إلينا نَبِيًّا كَرِيمًا، وأنزلَ إليه أعظمَ الكتبِ، وهو أصدقُ كلامٍ، وَكُلُّ ما في كتابِ اللَّهِ فنحنُ نقطعُ به ونجزمُ به - لأنه كلامُ خَالِقِنَا - أشدَّ مِنْ جَزْمِنَا بما رَأَتْهُ أعينُنا وَسَمِعَتْهُ آذانُنا، فقد قَصَّ اللَّهُ علينا قصصَكم مُفَصَّلَةً ومجملةً، فأنتم يا قومَ نوحٍ قَصَّ اللَّهُ علينا في كتابِه ما جرى منكم معه في دارِ الدنيا وأنه قال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} إلى آخِرِ الآياتِ. [نوح: الآيات 7 - 9]. وأنتم يا قومَ هودٍ قَصَّ اللَّهُ علينا من خَبَرِكُمْ كذا وكذا وكذا، وقولكم له: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} [هود: آية 54] وما صَبَرَ على أذاكم وما جاءكم به من الإنذارِ العظيمِ. وكذلك قومُ صالحٍ، فنفصَّل ما فُصِّلَ، وَنُجْمِلُ ما أُجْمِلَ، فيثبت الحكمُ عليهم بشهادتِنا كما [مضى] (¬1) في قولِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: خيارًا عُدُولاً {لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: آية 143] فهذه الآيةُ وأمثالُها كقولِه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: آية 110] فيها الدلالةُ القرآنيةُ الواضحةُ على أن هذه الأمةَ هي خيرُ الأممِ وأفضلُها، ويؤيدُ ذلك ويوضحُه ما جاء في السننِ من حديثِ معاويةَ بنِ حيدةَ القشيريِّ (رضي الله عنه) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في هذه الأمةِ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» (¬2).
أما قولُه في بني إسرائيلَ: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: آية 47] فلا يتناولُ هذه الأمةَ؛ لأنها في ذلك الوقتِ لم تُوجَدْ، والمعدومُ ليس بشيءٍ حتى يُفضَّل عليه غيرِه؛ فبعدَ أن وُجِدَتْ واستقرَّ كيانُها صَحَّ تفضيلُها على جميعِ الأممِ، واستقراءُ القرآنِ قد دَلَّ
¬_________
(¬1) في الأصل: «سيأتي»، وهو سبق لسان.
(¬2) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

الصفحة 624