كتاب تفسير ابن كثير ط العلمية (اسم الجزء: 3)

رُخْصَةَ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ جِبَالِ عَرَفَةَ» »
وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: قَدْ يَكُونُ تَنَاوَلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَهُوَ ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبا، وقد يَكُونُ مُبَاحًا بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَتَنَاوَلُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ، أَوْ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ أَوْ يَشْبَعُ وَيَتَزَوَّدُ؟ عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَفِيمَا إِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ أَوْ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمَيْتَةَ أَوْ ذَلِكَ الصَّيْدَ وَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ أَوْ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَيَضْمَنُ بَدَلَهُ، عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَيْسَ مِنْ شِرْطِ جَوَازِ تَنَاوَلِ الْمَيْتَةِ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَجِدُ طَعَامًا كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ مَتَى اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ، فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا بِهَا الْمَيْتَةُ؟ فَقَالَ «إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا، وَلَمْ تَغْتَبِقُوا، وَلَمْ تحتفئوا بها بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا» «3» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ وَاصِلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَسَدِيِّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ، لَكِنْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانٍ، عَنْ مَرْثَدٍ أَوْ أَبِي مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ حَسَّانٍ، عَنْ رَجُلٍ قَدْ سُمِّيَ لَهُ فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ هَنَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانٍ مُرْسَلًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «4» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ ابن عَوْنٍ، قَالَ: وَجَدْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ كِتَابَ سَمُرَةَ فقرأته عليه، فكان فيه: ويجزئ مِنَ الِاضْطِرَارِ غَبُوقٌ أَوْ صُبُوحٌ.
حَدَّثَنَا «5» أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْخَصِيبِ بْنِ زَيْدٍ التَّمِيمِيِّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم فقال: متى «6» يحل الْحَرَامُ؟ قَالَ: فَقَالَ «إِلَى مَتَى يَرْوَى أَهْلُكَ مِنَ اللَّبَنِ أَوْ تَجِيءُ مِيرَتُهُمْ» . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، حدثني عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ جَدِّهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَدَّتِهِ «7» : أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يستفتيه في
__________
(1) مسند أحمد 2/ 71.
(2) مسند أحمد 5/ 218.
(3) الاصطباح: أكل الصباح وهو الغداء. والاغتباق: أكل الغبوق وهو العشاء. واحتفأ البقل: اقتلعه ورمى به.
(4) تفسير الطبري 4/ 427.
(5) الرواية للطبري في تفسيره 4/ 426.
(6) في الطبري: «إلى متى يحلّ لي الحرام؟» .
(7) في الطبري: «عمن حدثه» .

الصفحة 26