كتاب تفسير ابن كثير ط العلمية (اسم الجزء: 3)

مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الذِّمِّيَّاتُ دُونَ الْحَرْبِيَّاتِ، لِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَةِ: 29] ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَرَى التَّزْوِيجَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَيَقُولُ: لَا أَعْلَمَ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ إِنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُؤَدِّبُ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ يَعْنِي الْمُزَنِيَّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سُمَيْعٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ، قال نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ فَحَجَزَ النَّاسُ عَنْهُنَّ حَتَّى نَزَلَتِ الآية الَّتِي بَعْدَهَا وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فنكح الناس نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ نِسَاءِ النَّصَارَى، وَلَمْ يَرَوْا بِذَلِكَ بَأْسًا أَخْذًا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَجَعَلُوا هَذِهِ مخصصة للتي في سورة البقرة وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ إِنْ قِيلَ بِدُخُولِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي عُمُومِهَا، وَإِلَّا فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قد انفصلوا فِي ذِكْرِهِمْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كقوله تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ:
1] وَكَقَوْلِهِ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا [آلِ عِمْرَانَ:
20] .
وَقَوْلُهُ: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ مُهُورَهُنَّ، أَيْ كَمَا هُنَّ مُحْصَنَاتٌ عَفَائِفُ فَابْذُلُوا لَهُنَّ الْمُهُورَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَقَدْ أَفْتَى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، بِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَكَحَ امْرَأَةً فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما، وَتَرُدُّ عَلَيْهِ مَا بَذَلَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ فَكَمَا شَرَطَ الْإِحْصَانَ فِي النِّسَاءِ، وَهِيَ الْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا، كَذَلِكَ شَرَطَهَا فِي الرِّجَالِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَيْضًا مُحْصَنًا عَفِيفًا، وَلِهَذَا قَالَ: غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَهُمُ الزُّنَاةُ الَّذِينَ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ مَعْصِيَةٍ وَلَا يَرُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّنْ جَاءَهُمْ، وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ، أَيْ ذَوِي الْعَشِيقَاتِ الَّذِينَ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا مَعَهُنَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ سَوَاءٌ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ حَتَّى تَتُوبَ، وَمَا دَامَتْ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُهَا مِنْ رَجُلٍ عَفِيفٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ عَقْدُ الرَّجُلِ الْفَاجِرِ عَلَى عَفِيفَةٍ حَتَّى يَتُوبَ وَيُقْلِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ من الزنا لهذه الآية وللحديث «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» «2» .
__________
(1) تفسير الطبري 4/ 446- 447.
(2) رواه أحمد في المسند 2/ 324 من حديث أبي هريرة.

الصفحة 38