كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 3)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم وضع رأسه تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده.
__________
أظهر في تسمية حاله صلى الله عليه وسلم ملكا لأنه خير بين أن يكون نبيا عبدا أو نبيا ملكا، فالتفت إلى جبريل فأشار إليه، أن تواضع، فقال: "بل نبيا عبدا أشبع يوما وأجوع يوما". وإنكار العباس يقوي هذا المعنى، وأمر الخلفاء الأربعة بعده يكره أيضا أن يسمى ملكا لقوله صلى الله عليه وسلم: "تكون بعدي خلفاء، ثم تكون أمراء, ثم تكون ملوك، ثم جبابرة"، ويروى: "ثم تكون بزيزيا" وهو تصحيف. قال الخطابي: إنما هو فريرا أي: قتل وسلب. انتهى.
وروى الحافظ محمد بن يحيى الدهلي، بالذال واللام من مرسل سعيد بن المسيب، لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان: قلت لهند: أترين هذا من الله؟ ثم أصبح فقال له عليه السلام: "قلت لهند أترين هذا من الله؟ ". قال: "نعم هذا من الله". فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله والذي يحلف به ما سمع قولي هذا إلا الله وهند.
"وروي" عن ابن إسحاق من مرسل شيخه عبد الله بن أبي بكر "أنه صلى الله عليه وسلم" وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة أحمر، "وضع رأس تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن رأسه" لفظ ابن إسحاق عثنونه، وهو بضم المهملة والنون بينهما مثلثة ساكنة، أي لحيته "لتكاد تمس رحله" لفظه أيضا واسطة الرحل فكان المصنف عبر بالرأس، لأنه الظاهر للرائي غالبا عند الخفض وهو الذي يرفعه المتكبرون عادة دون بقية الأجزاء، وقد روى الحاكم، بسند جيد قوي عن أنس قال: لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح استشرفه الناس فوضع رأسه على رحله متخشعا.
وروى الواقدي عن أبي هريرة دخل صلى الله عليه وسلم يومئذ حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس، وأن عثنونه ليمس واسطة رحله أو يقرب منها تواضعا لله حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة"، وجعلت الخيل تجمع بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت، حتى توسطهم صلى الله عليه وسلم فأفاد أن ابتداء فعله ذلك من ذي طوى واستمر حتى دخل مكة "شكرا وخضوعا لعظمته" أي لذاته المتصفة بالعظمة.
فالعظمة هي المجموع من الذات والصفات، فلا يرد أن الخضوع إنما هو للذات "أن أحل له بلده" أي القتال فيه ومع ذلك، فلا خلاف أنه لم يجر فيها قسمة غنيمة، ولا سبى من أهلها أحدا بل منّ عليهم بأموالهم وأنفسهم، كما في الروض وغيره وعند أبي داود، بإسناد حسن عن جابر، أنه سئل هل غنمتم يوم الفتح شيئا؟ قال: لا "ولا يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده", كما