كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 3)

لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ركب صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء "دلدل" لطيفة.
__________
حكاه ابن إسحاق: "لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم" لأن ظاهره الافتخار بكثرتهم والإخبار بنفي الغلبة لانتفاء القلة، فكأنه قال: سبب الغلبة القلة، ونحن كثير فلا نغلب، كما روى الحاكم وصححه، وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم عن أنس، لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتهم كثرتهم، فقال القوم: اليوم والله نقاتل حين اجتمعنا، فكره صلى الله عليه وسلم ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم، ووقع عند ابن إسحاق: حدثني بعض أهل مكة أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال حين رأى كثرة من معه من جنود الله تعالى: "لن نغلب اليوم من قلة" قال الشامي: والصحيح أن قائل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم.
وروى الواقدي عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة وبه جزم ابن عبد البر. انتهى، وعلى فرض صحة أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قاله أو الصديق، فليس المراد الافتخار، بل التسليم لله، فالمقصود نفي القلة لا نفي الغلبة، أي إن غلبنا فليس لأجل القلة، بل من الله الذي بيده النصر والخذلان، كما أفاد ذلك الطيبي في حواشي الكشاف، فقال: هذا مثل قوله تعالى: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] الآية، في أن قوله لم يخروا ليس نفيا للخرور، إنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، كذلك لن نغلب ليس نفيا للمغلوبية، وإنا هو إثبات ونفي القلة، يعني متى غلبنا، كان سببه عن القلة، هذا من حيث الظاهر، ليس كلمة إعجاب، لكنها كناية عنها، فكأنه قال: ما أكثر عددنا، "ثم ركب صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء دلدل".
قال الحافظ في الفتح: كذا عند ابن سعد، وتبعه جماعة ممن صنف في السير، وفيه نظر لأن دلدل أهداها له المقوقس، وقد روى مسلم عن العباس: أنه صلى الله عليه وسلم كان على بغلة له بيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، وله عن سلمة: وكان على بغلته الشهباء.
قال القطب الحلبي: يحتمل أن يكون يومئذ ركب كلا من البلغتين، إن ثبت أنها كانت صحبته، وإلا فما في الصحيح أصح، وأغرب النووي، فقال: البيضاء والشهباء واحدة، ولا يعرف به بغلة غيرها، وتعقبوه بدلدل، فقد ذكرها غير واحد، لكن قيل: إن الاسمين لواحدة. انتهى.
وهذا القيل زعمه ابن الصلاح وهو مردود بأن البيضاء التي هي الشهباء أهداها له فروة بن نفاثة، بضم النون وخفة الفاء ومثلثة، ودلدل أهداها المقوقس، "لطيفة" قال القطب الحلبي: استشكلت عند الدمياطي ما ذكره ابن سعد، فقال لي: كنت تبعته فذكرت ذلك في السيرة، وكنت حينئذ سيريا محضا، وكان ينبغي لنا أن نذكر الخلاف.

الصفحة 504