كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 3)

ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح.
__________
قال الحافظ: ودل هذا على أنه كان يعتقد الرجوع عن كثير مما وافق فيه أهل السير، وخالف الأحاديث الصحيحة، وأن ذلك كان منه قبل تضلعه منها، ولخروج نسخ كتابه، وانتشاره لم يتمكن من تغييره. انتهى.
ووقع في رواية لأحمد، وأبي داود وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم كان يومئذ على فرس، قال الشامي: وهي شاذة، والصحيح أنه كان على بغلة.
قال الواقدي عن شيوخه: لما كان ثلث الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه، فعبأهم في وادي حنين، وهو واد أجوف خطوط ذو شعاب ومضايق، وفرق الناس فيها، وأوعز إليهم أن يحملوا على المسلمين حملة واحدة، وعبأ صلى الله عليه وسلم أصحابه، وصفهم صفوفا في الشجر، ووضع الألوية والرايات في أهلها، "ولبس درعين، والمغفر، والبيضة", واستقبل الصفوف، وطاف عليهم بعضا خلف بعض ينحدرون، فحضهم على القتال، وبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، وقدم خالد بن الوليد في بني سليم، وأهل مكة، وجعل ميمنة، وميسرة وقلبا كان صلى الله عليه وسلم فيه.
قال ابن القيم: من تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله لمسبباتها قدرا، وشرعا، فإنه صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق توكلا، وقد دخل مكة، والبيضة على رأسه، ولبس يوم حنين درعين، وقد أنزل الله عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] .
وكثير ممن لا تحقيق عنده يستشكل هذا، ويتكايس في الجواب تارة بأنه فعله تعليما لأمته، وتارة بأنه قبل نزول الآية، ولو تأمل أن ضمان الله العصمة، لا ينافيه تعاطيه لأسبابها، فإن ضمان ربه لا ينافي احتراسه من الناس، كما أن إخباره تعالى بأنه يظهره على الدين كله ويعليه، لا يناقض أمره بالقتال، وإعداده العدة، والقوة، ورباط الخيل، والأخذ بالجد والحذر، والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب والتورية، فكان إذا أراد غزوة وارى بغيرها، وذلك لأنه إخبار من الله عن عاقبة حاله وما له بما يتعاطاه من الأسباب، التي جعلها بحكمته موجبة لما وعده من النصر والظفر، وإظهار دينه وغلبة عدوه. انتهى.
"فاستقبلهم من هوازن ما لم يرو مثله قط من السواد والكثرة" لأنهم أزيد من عشرين ألفا، "وذلك في غبش" بفتح المعجمة والموحدة وبالمعجمة قال في القاموس: بقية الليل أو ظلمة آخر، فإضافته إلى "الصبح" الذي هو أول النهار إشارة إلى شدة قربه من الليل حتى كأن ظلمته باقية، وفي حديث جابر عند ابن إسحاق وغيره في عماية الصبح، بفتح المهملة وخفة الميم بقية ظلمته، ولا ينافي هذا ما عند أبي داود وغيره بسند جيد عن أبي عبد الرحمن بن

الصفحة 505