كتاب شرح المفصل لابن يعيش (اسم الجزء: 3)

يعني الحادي، والقطين: جمع قاطن. وإنما نصبوا بها هاهنا؛ لأنهم شبهوا نونَ "لدن" بالتنوين في "ضاربٍ"، فنصبوا "غدوةً" تشبيها بالمميز في نحو: "عندي راقودٌ خَلاّ، وجُبة صُوفًا"، والمفعولِ في نحو: "هذا ضاربٌ زيدًا، وقاتلٌ بكرًا"، ووجهُ الشَّبَه بينهما اختلافُ حركة الدال قبل النون، يقال: "لَدُنْ"، و"لَدَنْ"، بضم الدال وفتحها على ما سبق. فلما اختلفت الحركتان قبل النون، وكانوا يحذفون النون، فيقولون: "لَدُ غدوة"، شابهت الحركاتُ قبلها باختلافها حركاتِ الإعراب، وشابهت النونُ التنوين بكونها تُحذَف تارة وتُثبَت أخرى، كما يكون التنوين كذلك، فنصبوا بها "غدوةً"، كما نصبوا بـ "ضارب".
وقد شبه بعضُهم "غدوةً" بالفاعل، فرفعها فقال: "لدن غدوةٌ"، كما تقول: "قام زيدٌ". ومنهم من يجري على القياس، فيخفض بها، فيقول: "لدن غدوة".
ولا يُنصب غيرُ "غدوة" مع "لدن"، وذلك لكثرة استعمالها، فغيروها عن الجر، فلا تقول قياسًا على "لدن غدوةً": "لدن بُكْرَةَ"؛ لأنه لم يكثر في كلامهم كثرةَ "لدن غدوة".
واعلم أن "غدوة" قد وقعت بعد "لدن" مصروفة ألبتةَ، فقالوا: "لدن غدوةً"، و"غدوة" وقعتْ في كلامهم معرفةً، و"غَداةٌ" نكرة، ألا ترى أنك تقول: "بالغداة والعَشِي"، ولا تقول: "بالغدوة والعشي" إلَّا في قراءة ابن عامر؟ والوجهُ في ذلك كثرةُ استعمالها , ولكثرة الاستعمال أثر في التغيير، ألا ترى أنهم قالوا: "أيْش"، والمراد: أيُ شيءٍ، وقالوا: "وَيْلُمِّهِ"، وقالوا: "لا أَدْرِ"، فغيروا هذه الأشياء عن مقتضاها لضرب من التخفيف عند كثرة الاستعمال.
وصرفُ الاسم حكم عليه بالخفة، وعدل به عن شَبَه الفعل، هذا مع ما في صرفه من إزالةِ لبس، وذلك أنك لو منعتَه الصرفَ، فقلت: "لدن غدوةَ"، ربّما أشكل على السامع، وظَن أنه مخفوض، والفتحةُ علامةُ الخفض، فصرفوها ليُؤْمَنَ هذا اللبسُ فيه. وحملوا الخفضَ والرفع على النصب في الصرف ليجيء الأمرُ فيه على منهاج واحد في الخفيف، كما حملوا "أَعِدُ"، و"نعد"، و"تَعِدُ" على "يَعِدُ" في حذف الواو. ويحتمل وجهًا آخَرَ، وهو أن النصب إنما هو على التشبيه بالتمييز على ما تقدم، والتمييزُ لا يكون إلَّا نكرة، فنوَوْا في "غدوة" التنكيرَ حملاً لها على أُختها، وهي "غداةٌ". وقد اعتقد فيها التنكيرَ من قرأ: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (¬1). ومن ذلك قولُ طَرَفَةَ [من الطويل]:
644 - كأن حُدُوجَ المالِكِيةِ غُدْوَة ... خَلايَا سَفِين بالنواصِفِ مِن دَدِ
¬__________
(¬1) الأنعام: 52؛ والكهف: 22. وهذه قراءة ابن عامر، ومالك بن دينار، ونصر بن عاصم. انظر: البحر المحيط 4/ 136؛ والمحتسب 2/ 305؛ والنشر في القراءات العشر؛ ومعجم القراءات القرآنية 2/ 271.
644 - التخريج: البيت لطرفة في ديوانه ص 20؛ ولسان العرب 9/ 334 (نصف)، 14/ 241 (خلا) , 253 =

الصفحة 130