كتاب شرح المفصل لابن يعيش (اسم الجزء: 3)

وإنّما ألزموها "مِنْ" توكيدًا، فصارت بمنزلةِ تمام الاسم، ومثله زيادةُ "ما" في "لا سِيَّما زيدٌ". وإنّما اختاروا ذلك لتوهّم لبسٍ ربّما وَقَعَ، وذلك أنّك إذا قلت: "كَأيٍّ رجلاً أهلكت"، جارّ أن يكون "رجلاً" منصوبًاب "كَأَيٍّ"، فيكون واحدًا في معنى جمع، ويجوز أن يكون منصوبًا بالفعل بعده، ويكون "كأيٍّ" ظرفًا، كأنّه قال: "كأيٍّ مرّةً"، فيكون "رجلًا" واحدًا لفظًا ومعنًى، كأنّه قال: "أهلكتُ رجلاً مِرارًا". قال سيبويه (¬1): إنّما ألزموها "مِنْ" لأنّها توكيدٌ، فجُعلت كأنّها شيء يتمّ به الكلامّ. قال (¬2): ورُبَّ تأكيدٍ لازم حتّى يصير كأنّه من الكلمة. وهذا هو المعنى الأوّل، وذلك أنّ التأكيد إنّما يُؤتَى به لإزالةِ لَبْس، أو قَطْعِ مَجاز، فلمّا كان الموضع موضعَ لبس، لزم التأكيد.
وفيها خمسُ لغات على ما ذُكر، قالوا: "كَأَيٍّ"، و"كاءٍ"، و"كَيْءٍ"، و"كَأْي"، و"كَإ". حكى ذلك أحمدُ بن يَحْيَى ثَعْلَبٌ. فمن قال: "كَأَيٍّ"، فهي "أَيٌّ" دخلتْ عليها الكافُ، ورُكّبتا كلمةً واحدةً على ما تقدّم، ومن قال: "كاءٍ" فهي "كأَيٍّ " أيضًا، تَصرّفوا فيها لكثرة استعمالهم إيّاها، فقدّموا الياء المشدّدة، وأُخّرت الهمزة، كما فعلوا ذلك في "قِسِّي"، و"أشياء"، و"جاءٍ" في قول الخليل، فصار "كَيِّىءٍ" فأشبه "هَيِّنًا"، و"لَيِّنًا"، فحذفوا الياء الثانيةَ تخفيفًا، فصار "كَيْء"، كما قالوا: "هَيْنٌ"، و"لَيْنٌ"، ثمّ قلبوا الياء ألفًا لانفتاح ما قبلها كما فعلوا في "طائيٌّ"، والأصلُ: طَيْئِيٌّ، وكما قالوا: "حارِيٌّ" في النِّسَب إلى الحِيرَة، وقالوا: "آيَةٌ" وهو"فَعْلَةٌ" ساكنَ العين في قولِ غير الخليل، ولذلك نظائرُ، فصار"كاءٍ".
وكان أبو العبّاس المبرّد يذهب إلى أنّ الكاف لمّا لحقتْ أوّل "أيٍّ"، وجُعلتْ معها اسمًا واحدًا، بنوا منهما اسمًا على زنةِ "فاعلٍ"، فجعلوا الكافَ فاءً، وبعدها ألفُ "فاعلٍ"، وجعلوا الهمزةَ التي كانت فاءً في موضع العين، وحذفوا الياء الثانية من "أيٍّ"، والياء الباقيةُ في موضع اللام، ودخل عليها التنوينُ الذي كان في "أيٍّ"، فسقطت الياء لالتقاء الساكنَيْن، فصارت "كَاءٍ". ولزمت النونُ عوضًا من الياء المحذوفة. وكان يونس يزعم أن "كائنْ" فاعلٌ من "كَانَ يَكُونُ". فعلى القولَيْن الآخِرَيْن يكون الوقفُ عليها بالنون، وعلى القول الأوّل تقِف بالهمزة والسكون، وتحذف التنوينَ.
وأما "كَيِّىءٍ" بياء مشدَّدة وهمزة بعدها، فإنّه لمّا أصاره القلبُ والتغييرُ إلى "كَيِّىءٍ"، وُقف عند ذلك، ولم تُحذَف إحدى الياءَيْن، وإنما أُخّر الهمزة، وقُدّم الياء، فصار كـ "سَيِّد" و"جَيِّد"، فخفّ بكثرة النظير.
وأمّا "كَيْءٍ" بوزنِ "كَيْع"، فلغةٌ حكاها أبو العبّاس. وذلك أنّه لمّا أصاره القلبُ والتخفيفُ بحذف إحدى الياءَيْن إلى "كَيْءٍ" بوزن "بَيْتٍ"، لم تُقلَب الياء ألفًا لسكونها.
¬__________
(¬1) الكتاب 2/ 171.
(¬2) الكتاب 4/ 409.

الصفحة 182