كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (اسم الجزء: 3)
في التسريح عن مستقر الحمّام، والقصد بذلك أنها لا ترجع إلى أبراجها من قريب، وكان يعمل في الطيور السلطانية علائم، وهي داغات في أرجلها أو على مناقيرها، ويسميها أرباب الملعوب الاصطلاح، وكان الحمام إذا سقط بالبطاقة لا يقطع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة، وكانت لهم عناية شديدة بالطائر، حتى أن السلطان إذا كان يأكل وسقط الطائر لا يمهل حتى يفرغ من الأكل، بل يحل البطاقة ويترك الأكل، وهكذا إذا كان نائما لا يمهل بل ينبه.
قال ابن عبد الظاهر: وهذا الذي رأينا عليه ملوكنا، وكذلك في الموكب وفي لعب الأكرة، لأنه بلمحة يفوت ولا يستدرك المهم العظيم، إمّا من واصل أو هارب، وإمّا من متجدّد في الثغور. قال: وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك، ورأيت الأوائل لا يكتبون في أولها بسملة، وتؤرّخ بالساعة واليوم لا بالسنين، وأنا أورخها بالسنة، ولا يكثر في نعوت المخاطب فيها، ولا يذكر حشو في الألفاظ، ولا يكتب إلّا لبّ الكلام وزبدته، ولا بدّ وأن يكتب سرّح الطائر ورفيقه، حتى إن تأخر الواحد ترقّب حضوره، أو تطلب ولا يعمل للبطائق هامش ولا تجمّل، ويكتب آخرها حسبلة، ولا تعنون إلّا إذا كانت منقولة، مثل أن تسرّح إلى السلطان من مكان بعيد، فيكتب لها عنوان لطيف حتى لا يفتحها أحد، وكلّ وال تصل إليه يكتب في ظهرها أنها وصلت إليه ونقلها، حتى تصل مختومة.
قال: ومما شاهدته وتوليت أمره، أنّه في شهور سنة ثمان وثمانين وستمائة، حضر من جهة نائب الصبيبة نيف وأربعون طائرا صحبة البرّاجين، ووصل كتابه أنه درجها إلى مصر، فأقامت مدّة لم يكن شغل تبطق فيه فقال برّاجوها: قد أزفّ الوقت عليها في القرنصة، وجرى الحديث مع الأمير بيدار نائب السلطنة، فتقرّر كتب بطائق على عشرة منها بوصولها لا غير، وسرّحت يوم أربعاء جميعها، فاتفق وقوع طائرين منها، فأحضرت بطائقهما وحصل الاستهزاء بها، فلما كان بعد مدّة وصل كتاب السلطان أنها وصلت إلى الصبيبة في ذلك اليوم بعينه، وبطق بذلك في ذلك اليوم بعينه إلى دمشق، ووصل الخبر إلى دمشق في يوم واحد، وهذا مما أنا مصرّفه وحاضره والمشير به. قال مؤلفه رحمه الله: قد بطل الحمام من سائر المملكة إلّا ما ينقل من قطيا إلى بلبيس ومن بلبيس إلى قلعة الجبل، ولا تسل بعد ذلك عن شيء. وكأني بهذا القدر وقد ذهب، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
ذكر ملوك مصر منذ بنيت قلعة الجبل
اعلم أن الذين ولوا أرض مصر في الملة الإسلامية على ثلاثة أقسام. القسم الأول:
من ولي بفسطاط مصر، منذ فتح الله تعالى أرض مصر، على أيدي العرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وتابعيهم فصارت دار إسلام، إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر من بلاد إفريقية بعساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى القاهرة، وهؤلاء
الصفحة 403
439